لا شك في أن الفنون الشعبية على اختلاف مسمياتها وألوانها، والمتواجدة لدى أي شعب عريق له وجوده وامتداده الضارب في أعماق التاريخ الإنساني، قد جاءت نتيجة للعديد من العوامل الإنسانية التي ساهمت في صناعة وخلق هذه الفنون بما يتناسب مع الوسط الشعبي
الذي تشكلت وخلقت فيه لتصبح فيما بعد سمةً أساسيةً من سمات ذلك الوسط بحيث يصير أي استخدام لها فيما بعد تجسيدا صادقا وحيا لطبيعة ذلك الوسط بل ومعبرا حقيقيا عن انفعالاته قولا وفعلا تجاه كل ما يتعرض له من مواقف.
وبالنظر إلى البيئة الفنية في اليمن سنجد أننا أمام بيئة خصبة ومتعددة الألوان، ولا تنحصر على لون فني بعينه، وإنما تختص كل منطقة بلون فني معين يختلف عن بقية فنون المناطق الأخرى، ولعل من أبرز واقوى هذه الفنون (فن الزامل) الذي تكاد المناطق الشمالية قد اختصت به دون غيرها،وذلك نظرا لطبيعتها القبلية والجغرافية الخاصة التي تتميز بها دون غيرها.
– ما هو الزامل؟
الزامل هو لون من ألوان الشعر الشعبي اليمني ونوع من “الرجز الشعري” المتعلق بالحرب، أو الذي يكثر منه أثناء الحروب والمعارك، إذ أن غرضه الأساسي هو إخافة الأعداء، ومع أنه كان ذا شكل واحد وهو الحرب لا غيرها، إلا أنه كان وما يزال يستخدم أيضًا للترحيب بالضيوف والرثاء والأعراس والهجاء والتربيع (الانضمام في حلف لقبيلة أخرى) وغيرها.
أما عن تاريخ ظهور الزامل،فقد ذكرت المصادر التاريخية أنه لا يوجد تدوين محدد لبداية هذا الفن الشعبي اليمني ولكن توجد أول إشارة تدل على هيئة الزامل، وهو ما جاء ذكره في قصة (ثيونانس) في أوائل القرن السادس الميلادي، عندما تكلم عن الوفد الذي أرسله قيصر الروم إلى ملك حِمْيَر (اليمن)، وهو الوفد الذي رأسه شخص يدعى (يدليانوس)، الذي ذكر أنه رأى الملك الحميري عندما خرج في موكبه واقفاً على عربة، أو مركبة تجرَّها أربعة أفيال، وليس على هذا الملك من الملابس إلا مئزراً محوكاً بالذهب حول (حقويه) وأساور ثمينة في ذراعيه، ويحمل بيديه ترساً ورمحين، وحوله رجال حاشيته وعليهم الأسلحة، وهم يتغنون بإطرائه وتفخيمه. وهنا يتضح أن الزامل كان معروفاً وشائعاً قبل الإسلام لدى عَرَبِ اليمن، بل وقبل هذا التاريخ بفترة، أي في القرن السادس الميلادي، وبإثبات وجود الزامل، هذا الوجود المبكر، يُرجّح وجود الشعر الذي هو مادة الزامل حيث لا زامل بدون شعر.
وقد عرف الأديب اليمني أحمد محمد الشامي الزامل في كتابه “قصة الأدب في اليمن” بقوله:
الزامل وجمعه زوامل وهو نوع من الرجز يلجأ إليه أبناء اليمن عندما يكونون في حالة خصام أو حرب فيقف قائدهم وهو في الغالب يجيد نظم الزوامل، أو أي واحد منهم فيرتجز بضعة أبيات بلهجته العامية، فيلتقفها القوم ويغمونها بأصواتهم، ثم ينشدونها جميعاً لإثارة الحماس وتحفيز الهمم. وكذلك إذا أرادت جماعة من الناس أو قبيلة من القبائل أن تحقق لها مطلباً من مسؤول أو حاكم أو قبيلة أخرى، فإنها توفد زمرة منها تمثلها وهم ينشدون الزامل الذي قد وضعوا فيه مطلبهم وأوجزوا فيه غرضهم، ويكون الزامل عادة باللغة العامية وتتفاوت القطعة منه ما بين اثنين وثمانية أبيات وهو موجود بصورته هذه في المناطق الشمالية.
ومما سبق يتضح لنا أن الزامل كان ومازال إلى اليوم سلاحا إعلاميا ذا قيمة كبيرة ومؤثرة سواء في النفسية الشعبية أو في نفسية العدو نفسه، وهو ما يفسر استخدامه على الأغلب في الحروب التي كانتيخوضها شعبنا اليمني قديمًا وحديثًا، دفاعًا عن أرضه وعرضه على مر العصور، ومع شن دول تحالف العدوان الأمريكي السعودي عدوانها الغادر علينا منذ ما يقارب الخمسة أعوام، سنلاحظ أن جذوة هذا الفن المذهل والبديع، سرعان ما استعرت من جديد، حتى أضحى الزامل هاجسًا يوميًا يشغل الذاكرة اليمنية، ويشهدطفرة فنية، تتجدد كل يوم بتجدد الأحداث والوقائع،حتى أصبحت كلمات الزامل، تأتي في نفس السياق الذي تأتي معه الأحداث، ليصبح لكل زامل حدثه الخاص به، المتزامن معه،ويمكن القول إن فترة الخمسة الأعوام التي مرت من بدء العدوان، تكاد تكون هي العصر الذهبي للزامل، نظراً لغزارة إنتاج الزامل في هذه الفترةالتي ترافقت بغزارة في الإنتاج الشعري أيضًا، إذ لا يكاد يمر أسبوع واحد على إنتاج الزامل الأول حتى نسمع بزامل آخر جديد سواءً أكان لنفس المنشد أو لمنشد آخر.
على أن ما يحمد لهذه الغزارة في إنتاج الزامل هو كسرها لحاجز حكر الزامل على منشد بعينه دون غيره بحيث أصبح هناك أكثر من منشد متمكن، وكذلك إظهارها للزامل بصورة جديدة ومختلفة تماما عما كانت عليه في السابق، وهي صورة حملت معها الكثير من التجديد والتطور والإبداع، وكانت أكثر جمالًا وتأثيرًا في المتلقي، الأمر الذي انعكس على اتساع الانتشار الحضور الجماهيري الكبير للزامل، وصلت لدرجة طغيان الزامل على الحضور الجماهيري للأغاني بكل ألوانها، مع ملاحظة أن هذا الاتساع لم يقتصر على حدود الشعب اليمني صاحب هذا الفن فحسب، بل أن رقعته الشعبية الحاضنة له، قد تجاوزت حدود الشعب اليمني، لتصل إلى حدود الشعوب العربية الأخرى التي من ضمنها ولاشك الشعب السعودي، والتي لم تخف شدة إعجابها بهذا الفن اليمني الأصيل وما أحدثه فيها من تأثير نظرا لقوته سواءً من حيث اللحن أو الكلمة أو الأداء.
ولعل السبب في هذا الانتشار الواسع للزامل الذي تجاوز النطاق الداخلي إلى النطاق الخارجي الذي ليس على معرفة بهذا الفن الأصيل، يعود إلى شيئين هما:
1.ملامسة الزامل للواقع الشعبي العربي وتعبيره عن قضاياه العامة والتي على رأسها قضيته الأم (قضية فلسطين والقدس).
2.المضامين النبيلة والسامية التي حملها الزامل للخارج (كالعزة والكرامة والصمود والإباء والغيرة والشجاعة وحب الوطن والاستعداد للتضحية بالنفس من أجل الوطن وحريته واستقلاله إلخ..) ونجح في تجسيدها على أرض الواقع، حتى تجلت مطابقةً لواقع المجاهدين اليمنيين في الجبهات، ذلك الواقع الذي جاء على هيئةصمود أسطوري وانتصارات متتالية كان لإيمان اليمنيين بالله وثقتهم القوية فيه وفي نصره لهم، فضل تحقيقها برغم فارق القوة والإمكانيات الكبير،وبالغ الأثر في صناعتها وتجسيدها واقعًا يشهد على عظمة اليمنيين وقوة إيمانهم وشدة بأسهم على مر العصور.
ولعل إدراك المنشدين والشعراء اليمنيين للأهمية المتعاظمة التي صار الزامل يمثلها في التأثير على المتلقي الخارجي،وكشف مظلوميتهم للعالم، هو ما دفعهم إلى العمل أكثر عليه بأساليب فنية جديدة ومبتكرة، أظهرت قدرتهم الكبيرة على الخلق والابتكار لحنًا وشعرًا وأداءً، الأمر الذي ساهم في إذكاء روح الحماس ورفع المعنويات وتعزيز روح الصمود والثبات في وجه العدوان، سواء لدى المجاهدين في الجبهات أو لدى غير المجاهدين من عامة الشعب، ناهيك عن تحطيمه في المقابل لمعنويات المعتدين ومرتزقتهم، وهو ما أدى إلى تلقيهم الهزيمة تلو الهزيمةوبث روح اليأس في نفوسهم من إمكانية انتصارهم،مع علمهم المسبق بأن لا قضية لهم وأنهم في صف الباطل.
لقد نجح صناع الزامل وبحرفية منقطعة النظير في استغلال الزامل وتطويعه في خدمة الجيش واللجان الشعبية كسلاح مساعد في مواجهة العدوان، وصولًا إلىصناعة النصر وتعزيز روح الصمود وذلك من خلال تركيزهم على ما يلي:
1- التأكيد على الاستمرار في الصمود والثبات في مواجهة العدوان لحين تحقيق النصر وهزيمة تحالف الشر والعدوان: ومن ذلك ما قاله الشاعر أمين الجوفي في زامل (كلمة واحدة) الذي أكد فيه على استمرار الشعب اليمني في الصمود والثبات انطلاقًا من وحدة الشعب والدين والمصير
مــــا بـا نـسـلّـم لــلـقـوى الـشـيـطـانية لـــو مـا بـقـي رجّـــال مــنـا في الـوجود
يأبى لــنـا اللهْ والـقـيْـم الإنسانية تأبى لـنـا عــادات الآبــاء والـجـدود
تأبى الــشـيَـم والـفـطـرة الـربـانـية وأخلاقنا والــديـن نـخـضع لـلـيهود
هـــــذه مـــبــادي ثــابـتـة وإيمانية وراســخـة عــنـد الـشـوافـع والـزيـود
2- التأكيد على الهوية الإيمانية للشعب اليمني والثقة المتأصلة في نفسية اليمنيين بحتمية نصر االله لهم: وذلك باعتبار الهوية الإيمانية هي الأساس الراسخ للثقة بالله والذي بنى عليه شعبنا اليمني العظيم حضارته وأكد بها على نبل قيمه وأخلاقه وصدق إخلاصه لله واستطاع من خلاله تحقيق الانتصار على كل من واجههم على مر الأزمان،وقد ظهرالتأكيد على الهوية الإيمانية للشعب اليمنيجليا في الكثير من الزوامل ومن ذلك قول الشاعرعاقل بن صبر في زامل بارق النصر:
الظلام انجلى وأشرق زمان الحقائق من هدى واقع القرآن نور الحقيقة
ارتفع بيرق الإسلام والشر زاهق واليماني مع الله ما العوائق تعيقه
الهوية وصدق الانتماء دم دافق والثقة مطلقة والنفس حرة طليقة
كما ظهر التأكيد على الثقة بالله من خلال ما قاله الشاعر محمد الجرموزي في زامل (ثقةبالله)والذي كشف فيه عن أن السر في تحقيق اليمنيين للانتصارات يكمن في ثقتهم المطلقة بالله وحده:
(ثقة بالله) يا فكر اليماني رتل الأذكار وعاصر وأقع الآيات بالعالم وترتيبه
تحدينا العواصف وأرتمى في بأسنا الإعصار هوت هيبة ملوك النفط تحت أقدامنا هيبة
لنا الأمجاد والعزة وحكام العرب في عار ونصر الله الأعظم جاء ولا به شك أو ريبة
____________
* نقلا عن موقع :المشهد اليمني الأول/