أكثر من خمسة أعوام من العدوان وما يزال الغباء يقود قادة المملكة إلى الإمعان فيه، وما يزال العقل البدوي خارج دائرة الحقائق الموضوعية ولو كان يتعظ لعرف أن عدوانه بدأ يخسر مَدَّه منذ البدايات الأولى وقد قارب العام السادس على الانتهاء ولم يدرك قادة المملكة الإشارات والرموز، ولم يعوا صبر الحليم ولم يشعروا بالمعادلة التي بدأت تتشكل وبالصورة التي وصل إليها الشعور الوطني العام، وهي صورة جديدة تتمثل في ملامحها العامة التي تجلت في الآونة الأخيرة وكانت صادمة لقلوب قادة دول العدوان وأذهانهم وتسرُ بالسرور كله قلوب أهل اليمن، وقد تبعث رموزها وإشاراتها الصورة التي سيكون عليها المستقبل، ومن الغباء أن لا يدرك قادة العدوان أن التصدع في الجبهات الموالية لهم، وفي جبهة الفار هادي الذي وجد ويجد نفسه بين الفينة والأخرى محاصراً من قبل ميلشياته ولجانه التي شكّلها على أسس مناطقية قد عملت على يقظة بعض كوامن النفوس بين الطغمة والزمرة وثمة ما يوحي بذلك في عدن، فالطغمة بدأت تستعيد وعيها بذاتها وبدأ الصراع القاتل يبرز على فوهات بنادق الزمرة، وقد تقول الحقائق الواردة من عدن إن القادم لم يعد يبشّر دول العدوان والتحالف والسعودية إلا بالخزي والعار والهزائم المتكررة، فاليمن التي باعها المرتزق تصرخ في ضميره الآن، وقد بكى الكثيرون أسفا وندما وعادوا إلى الحضن الدافئ، حضن الأم الرؤوم، حضن اليمن وهو حضن لا يجفو أحداً وقد يغفر ولا يحمل حقدا على الذين يذنبون في حقها، فالشعوب تنضجها المحنة وتصفى أخلاطها مرارة العذاب ومرارة المعاناة وحرارة التطلع إلى الخلاص وعلى هذا لم يكن العدوان عند العقلاء الذين يدركون الأبعاد التي تترتب عليه عامل دمار وانهيار بل إنه عامل ميلاد اليمن الجديد الذي سوف ينتفض من بين الركام إلى جلاء الوجود الحقيقي.
وعلينا أن ندرك أن المقدمة التي يخط صورتها وأبعادها النفسية والاجتماعية والثقافية بحروف النار وريشة الرعد والبروق عدوان المملكة العربية السعودية على اليمن، لن تكون لها نتيجة واحدة بل ستكون لها عدة نتائج منها النتيجة المنطقية ومنها النتيجة التوسطية ومنها النتيجة المعاكسة، وأغلب ما تتحقق هي النتائج المعاكسة في حياة الشعوب وعبر التاريخ أكثر من أن تعد في هذا المجال، فقد كان من المنتظر أن يبقى والاتحاد السوفياتي وفرنسا مرميين تحت أقدام الاحتلال النازي، لكن الذي حدث هو العكس بل وأكثر من العكس، فلم يكتف الاتحاد السوفياتي بإجلاء الاحتلال عن أرضه، وإنما اندفعت قواته حتى وصلت إلى قصر هتلر نفسه، وكذلك فرنسا فقد كانت الظواهر العامة تدل على أن الشعب الفرنسي قد حَمُدَ .. وأن إرادته قد تعطلت، فإذا به ينبعث من بين ركام الهزيمة والدمار ويحقق هزيمة المعتدي ويحتل قطاعات من أرضه وهو الأمر نفسه الذي تتحدث عنه نتائج المقدمات للعدوان على اليمن، فانتصار الجيش واللجان الشعبية أصبح ممكناً رغم التفوق المادي والعسكري وتكالب الأمم وتحالف الأعداء ورغم التفوق في العدد والعتاد وفي التقنيات والتكنولوجيا وفي إمكانات الجبهات المساندة السياسية والإعلامية والدبلوماسية وفي كل أدوات الحرب والصراع، فاليمن كما يقول البردوني “على سحق الطغاة معود”، وهو وطن يهزم الهزائم ويقفز فوق المعضلات، ولا يرضى لنفسه إلا النصر أو الفناء وكذلك دل تاريخه وتاريخ رموزه، فذو نواس فضّل الغرق في البحر على قبول هزيمة شعب الأكسوم له، وعلى نهجه ظل أبناء حمير ومن رحم ربي من أبناء كهلان، وقد توافق هذا المبدأ العقائدي مع مبادئ آل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث كان زيد بن علي تجسيداً له، فحين صرخ: “هيهات منا الذلة” ترددت أصداء صرخته في أنفة أهل اليمن فكانت الزيدية والهادوية أكثر أنفة وعزة والحركة السياسية والفكرية الأكثر تناغماً مع الوجدان اليمني الحميري.
فاليوم وبعد مرور أكثر من خمسة يرى الكثير من الخبراء العسكريين ومن أرباب السياسة أن الواقع يقول تلك الحقائق التاريخية التي لم يقف أمامها غرور القوة إلا خاضعا ذليلا مهانا منكسرا، فعملية الردع الرابعة كان التعاطي معها أكثر من ذي قبل وحتى خصوم اليمن من الذين تتخذ منهم المملكة أبواقا تستأجرها لتبرير عملياتها العسكرية في اليمن وقفوا عاجزين عن تبرير القوة الموازية بعد كل هذه السنين التي مضت .
لم تعد اليمن التي خاضت حربا ضروسا على مدى أكثر من خمسة أعوام كما كانت عليه، فالمعادلة اليوم تحمل تبدلا كثيرا يجمع عليه كل الخبراء والمحللين وهو أن المعركة كانت استنزافا عسكريا واقتصاديا للعدو السعودي وأن النتائج لم تكن لصالح السعودية بالمطلق، بل ورأى الكثير من الذين ظهروا في وسائل الإعلام أن السعودية تتجرع هزيمة مُرّة في اليمن، حتى الصحف الأمريكية ما تفتأ تخرج بمقالات تحليلية تقول هذه الحقيقة رغم نشاط السعودية في شراء شركات العلاقات العامة والانفاق عليها بشكل مهول من أجل تحسين صورتها إلا أن النتائج جاءت عكسية .
ومن هنا يمكن القول إن أمل حكام السعودية في تحقيق النصر على اليمن واليمنيين أصبح أملا مستحيلا وهو لن يتأتى وقد حاول الواقع وحاولت الأحداث أن تبعث رموزها وإشاراتها إن كان هناك من يعقل من حكام السعودية ومن يتبعهم .. فاليمن بلد عصي على الانكسار.