برحيل الإعلامي الكبير أحمد الحبيشي خسرت اليمن واحدا من أبرز مبدعيها ورجالات الفكر والسياسة والإعلام الذين تمتد آثارهم إلى أجيال لاحقة، نظرا لخصوبة التجربة التي عاشوها، وطبيعة الأحداث التي عاصروها، وكانوا من أبرز الشهود عليها، وقد شاء الله لفقيدنا أن يختم مشواره الإعلامي بموقف إيماني ووطني في مواجهة العدوان السعودي الأمريكي، والحرب التضليلية الإعلامية التي استند إليها التحالف ومرتزقته لتشويه صورة القوى الوطنية اليمنية، وتبرير القبح السعودي، وتقديم الرياض ونظامها الإجرامي كفاعل خير لا أكثر..
غير أن حضور الفقيد بالرأي وبالموقف، وبالعطاء الإعلامي المبدع كرئيس تحرير وكمقدم برامج يمتد إلى ثمانينات القرن الماضي بعد أن استكمل دراسته الجامعية في بغداد، وعاد إلى عدن كصحفي يساري سرعان ما حظي باهتمام القيادة السياسية، وثقة زملائه الصحفيين والإعلاميين، وغدا علما يشار إليه بالبنان..
صحيفة الوحدة ومحطة الحرية
تعرفت على اسم أحمد الحبيشي حين قرأت له حوارا صحفيا مطولا، أعادت نشره صحيفة الشورى الناطقة باسم اتحاد القوى الشعبية، وذلك مطلع التسعينات، أي بعد بضعة أشهر من إعلان الوحدة وقيام الجمهورية اليمنية، وكان الحوار مع المفكر الإسلامي الراحل إبراهيم بن علي الوزير، وتناول قضايا فكرية وسياسية جريئة لم يتم التطرق إليها من قبل، إلا أن ما لفت انتباهي أن الأسئلة التي وجهها الصحفي الحبيشي لضيفه كانت تنم عن غزارة معرفية قلَّما يتمتع بها غيره من الصحفيين، وهو ما مكنه من استخراج مكنونات الضيف، الذي أفصح بدوره عن رؤى عقلانية في الفكر الإسلامي ومدرسة الاعتدال التي ينتمي إليها إبراهيم الوزير..
ومن جهة أخرى، فإن هذا الحوار وغيره من الحوارات المتميزة التي أجرتها صحيفة الوحدة -التي كان الحبيشي أول رئيس تحرير لها- غير منفصلة عن الحقبة الذهبية التي عرفتها البلاد على صعيد التعددية الحزبية وحرية الرأي والتعبير خلال الثلاث السنوات الأولى من عمر الوحدة اليمنية، وقد كان الراحل الحبيشي كطائر يغرد بكل ثقة في سماء الحرية، وحضرة صاحبة الجلالة، قبل أن تنجرف اليمن إلى أتون أزمة سياسية وضعت حدا للأحلام والحريات، وفتحت معها باب الحرب الملعونة التي فرضت على فقيدنا اللجوء خارج الوطن حتى حين.
الحبيشي في صنعاء مرة أخرى
لم يطق الحبيشي حياة الشتات، ولعله لم يتفق مع رفاقه حول أساليبهم العقيمة في مواجهة مستجدات ما بعد الحرب التي حسمها نظام صالح، وعمد في ضوئها إلى إعادة ترتيب الحياة السياسية، وبناء التحالفات الجديدة التي كانت توحي بأن معارضة الداخل والخارج لن تقوى على صدها أقله على المدى المنظور..
استجاب الحبيشي للعفو السياسي، وللدعوة الرئاسية، فعاد إلى صنعاء مرة أخرى، وأتذكر هنا أني التقيته لأول مرة في مقيل بمنزل الأستاذ ناصر الحرورة المسؤول التنظيمي في اتحاد القوى الشعبية، فقد كانت قيادة الاتحاد تعترف للحبيشي بالجميل، حين كان منفتحا على أحزاب المعارضة وهو يرأس تحرير صحيفة رسمية، وفي المقابل فقد كان الحبيشي وقتها يوازن بين أكثر من خيار، وقد استقر على العمل مع السلطة، والاستقالة من الحزب الاشتراكي..
بات على الإعلامي اليساري المخضرم أن يتكيف مع الواقع الجديد وهيمنة اليمين المحافظ وسيطرته على مقاليد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان عليه أن يزاحم الكبار، وينجو بنفسه وبمشروعه الفكري الذي كان يتراكم يوما بعد آخر، ليفصح عن شخصية جدلية لا تستكين لثقافة ” القطيع “، وقد أمكن لنظام صالح الاستفادة من أداء الحبيشي، ومن جرأته في اقتحام المعارك السياسية والإعلامية، وتمكينه من إدارة أبرز الصحف الحزبية والرسمية في البلاد، وعلى رأسها صحيفتي 22 مايو، و14 أكتوبر.
الحبيشي والتطرف الديني
اشتغل الحبيشي في معاركه الجديدة على مهاجمة فكر الإخوان المسلمين في اليمن، وما يصدر من مواقف ملتبسة عن التجمع اليمني للإصلاح الذي كان يعيش فترة انتقالية جعلت رؤاه ومواقفه السياسية المتذبذبة أكثر عرضة للنقد وربما السخرية، إلا أنه حسم أمره بالانتقال كلية إلى مربع المعارضة السياسية وقيادة اللقاء المشترك..
لم يتردد الحبيشي في ملاحقة نقاط الضعف لدى الإخوان/ الإصلاح، فاشتغل عليها وسط مباركة العديد من قيادات المؤتمر الشعبي، إلا أن التيار المحافظ في حزبي المؤتمر والإصلاح لم يسكت على ما كان يسميه ب ” شطحات ” الحبيشي الذي وإن رضخ مؤقتا لبعض التوجيهات الحزبية، إلا أنه أخذ على عاتقه محاربة ” التطرف الديني ” مهما كانت النتائج..
وأتذكر أني التقيته ذات مرة بمعية المفكر الإسلامي الراحل جمال البنا الذي كان ضيفا على صنعاء، فكان البنا بمثابة الصيد الثمين الذي لا يمكن لصحفي كالحبيشي أن يغض الطرف عنه، وقد استجاب الأستاذ البنا لدعوة الحبيشي، وتم اللقاء الصحفي الذي أجاد توظيف عناوينه، بما يدعم أفكاره ومواقفه تجاه الإخوان المسلمين في اليمن..
لاحقا، وبرغم انفتاحه الكبير على ” أنصار الله “، إلا أنه ظل وفيا لمواقفه ومبادئه في مواجهة التشدد الديني، حيث حذر قيادة الأنصار من الأصوات والمواقف التي تنم عن غلو وتطرف، ناصحا الحركة بعدم السير على خطى الجماعات الدينية التي وسعت دوائر التحريم دون اعتبار لرأي المعتدلين في المذاهب والجماعات الأخرى.
موقفه من ثورة 21 سبتمبر
سبقت الإشارة إلى المحطة الأخيرة التي ترجل عندها فارس الكلمة أحمد الحبيشي، وهو إلى جوار الأحرار من أبناء اليمن صامدا وثابتا في مواجهة العدوان السعودي الأمريكي بكل تفاصيله وتداعياته، ومنخرطا بكل طاقته الإعلامية في مواكبة الصمود الشعبي اليماني وانتصارات الجيش واللجان الشعبية، ووثبة الأحرار في كل ميادين التضحية والعطاء، فلم يرهبه ناعق هنا أو متغطرس هناك، بل كان حيث يجب أن يكون الضمير الحر لا طمعا في جاه أو تزلفا لذي سلطان، وإنما ثباتا مع الوطن الذي غدرت به خناجر أولاده، وبنادق أعدائه..
قبيل العدوان على بلادنا كان الحبيشي قد أعلن اصطفافه بكل وضوح إلى جانب ثورة 21 سبتمبر التي أسقطت قوى النفوذ، ونظر إليها الراحل باعتبارها ” ضرورة تاريخية تستهدف إنقاذ ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر والجمهورية والوحدة ، وتصحيح الأوضاع الكارثية التي نجمت عن الانحراف عن المسار التحرري الوطني، والاستيلاء على السلطة والثروة وتجويف الثقافة الوطنية”، وحين سألته صحيفة ” لا ” عن سر موقفه المؤيد ل 21 سبتمبر، كان رده: الوطن ليس سلة، وأنا أنتمي إلى الوطن، وأحدد موقفي تجاه الأحداث والتنظيمات من خلال مدى تقاطعها أو ابتعادها عن مصالح الوطن، ثم أردف موضحا طبيعة نتيجة هذه الثورة بقوله: لقد سقطت “الأوليغارشيات” العسكرية والقبلية والدينية والإقطاعية التي اختطفت ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر والوحدة والديمقراطية والسلطة والثروة التي انشقت عن النظام يوم 11 فبراير الأسود، ونسقت مع السفارة الأمريكية ومع برنارد ليفي في 11 فبراير، لذا أنا أعتبر أن انتفاضة 21 سبتمبر الشعبية هي امتداد حي لثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، وأنجزت ما عجزت عنه قوى ثورة 26 سبتمبر وثورة 14 أكتوبر خلال 50 عاماً، عندما تعرضت للاختطاف من قبل الأوليغارشيات القبلية والعسكرية والدينية التي كان يتكون منها النظام.
ليل تهاوى كوكبه
حين أقدم التحالف السعودي الأمريكي على الحرب بهدف إثناء مفاعيل ثورة21سبتمبر سرت حالة من الابتهاج المعلن على ألسنة الكثير من النخب السياسية والإعلامية التي رحبت بالعدوان نكاية ب ” أنصار الله “، وطار إلى عاصمة العدوان العديد منهم بحثا عن دور في الحرب التي ظنوا أنها محسومة سلفا وأن عليهم أن يكونوا إلى جانب الجواد الرابح..
في هذه الأجواء تلقى الفقيد اتصالا من مالك قناة آزال محمد بن ناجي الشايف الذي طلب منه أن يغادر صنعاء إلى منفذ الطوال، وسيجد مبالغا ماليا هناك، ثم يذهب إلى الرياض والعمل على إعادة بث ” آزال “، إلا أن الحبيشي رفض العرض على نحو قاطع، وأغلق سماعة التلفون في وجه الشايف، وهذا ما قاله بنفسه عن تلك الواقعة: ” في تلك اللحظة كنت أطالع في التلفزيون مشاهد انتشال أسرة من تحت الأنقاض، أطفال ونساء كن بملابس النوم، فقلت له: أنا أشاهد هذا المشهد ولا يمكن إطلاقاً أن يسمح ضميري لي أن آتي إلى الرياض وأبارك العدوان وأؤيده وأنا أشاهد هذه المشاهد، وأشرف لي أن أموت مع هذه العائلة على أن أغادر إلى الرياض “..
وهكذا وقد حسم خياره ضد العدوان الهمجي والبربري، فقد انطلق في مختلف ميادين المقارعة والنزال الإعلامي، فكان الفارس في كل نزال من هذا النوع، وقد ألقى بثقل خبرته ومقدرته الكتابية والخطابية لينتصر لدماء الأبرياء الذين استباحهم العدوان دون وجه حق، فلم يتوقف أو يتراجع لحظة واحدة عن خوض غمار المواجهة والسجال مع قنوات الإفك وأرباب الدجل والتضليل، إذ كان حاضرا على الدوام مفندا للأكاذيب والشائعات، وكاشفا زيف الأجندة العدوانية، متسلحا بخبرة متراكمة وبموسوعة وأرشيف إعلامي لم يخذله طوال يوميات العدوان..
ولأنه قرر الانحياز إلى الوطن قبل أي شيء آخر، فقد وجدناه يبعد شيئا فشيئا عن المؤتمر الشعبي العام، وعن خطاب ” الفتنة ” التي أطلت بقرونها في النصف الثاني من عام 2017م، حين قرر الحبيشي كشف المؤامرة وإعلان موقفه منها في ” بيان للناس “، وكان أن سقطت الفتنة ورأسها، بينما كان الحبيشي ثابتا على ناصية الوفاء للوطن ولتضحيات أبنائه التي أثمرت نصرا وعزة وكرامة..
لقد كان الحبيشي نجما في سماء إعلامنا الوطني، كما كان بمثابة البوصلة لمن ضل الطريق وأضناه المسير، وما حالنا وحال الإعلام بعد رحيله إلا كليل تهاوى كوكبه.
* نقلا عن الثورة نت