كان من عوامل الهجرة أن اختار المسلمون لأنفسهم أن يكونوا عباداً لله بدلاً عن أن يكونوا عبيداً للطاغوت، وأن يكون إيمانهم خالصاً لله وحده وَتكون كلمة الله هي العليا وَكلمة الذين كفروا السفلى.
ومع ذكرى الهجرة النبوية 1442هـ على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، كانت هجرة النبي الأكرم -صلوات الله عليه وآله- حدثاً تاريخيًّا في الإسلام وذكرى سنوية خالدة في حياة المسلمين، وتزامناً مع المناسبة نشهد هذه الأيّام الانتصارات المؤيّدة من الله سبحانه لجندهِ وأنصارهِ وعبادهِ على أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
ومن نتائج الهجرة عُمُـومًا، الانتقال إلى واقعٍ أفضل يقَدِّر الإنسانية ويحترم الحقوق والانعتاق من القيود وتسلّط الطغاة والظالمين.
الهجرة في واقعنا اليوم تعني التحرّر والسعي نحو تحقيق السيادة والعيش الكريم والخروج من وصاية المستكبر الذي يسخّر الشعوب خدمةً لمحور الشر المناهض لقيم الحق والعدل والسلام.
الهجرة تعني تخلص المسلمين من معاناتهم وهوانهم ومواجهتهم للطغيان والعبودية التي قهرت المستضعفين وأذلّتهم وحقّرتهم، حين أدرك كفار قريش فقدانهم للسيادة والقرار تربـّصوا وأعدّوا عدتهم للقضاء على رسالة نبي الأُمَّــة في مهدها وجدّوا في القتال والمواجهة؛ ولذلك كانت الهجرة النبوية هي النواة التي تولّدت منها التضحيات، وكانت دافعاً للمسلمين نحو تقوية الأواصر فيما بينهم، فكان من ثمرة ذلك التكافل المجتمعي الذي قضى على شتاتهم وتفرقهم وضغائنهم.
وها نحن اليوم نشهد أحداثاً شبيهةً بالأمس، نشهد الهجرة من الفُرقة إلى التكافل بين أبناء المجتمع اليمني الواحد، ونشهد الكلمة السَّواء التي جمعت صفوف الشعب اليمني وَانعتاقهم من تسلّط القوى الخارجية بعد أن كانت فصائل ومكونات وتوجّـهات مختلفة، ونشهد القوة والمنعة والبأس اليماني الشديد ضد عدوان وجبروت واستكبار القوى الإقليمية العميلة للغرب الذي ترعى استراتيجياته أمريكا وإسرائيل وتسعي نحو تحقيق حُلمها في تقويض الأمن القومي العربي ككل.
كانت الهجرة النبوية تشكّل في أهدافها نواةً لبناء جيشٍ إسلامي قوي يحمي وحدة الأُمَّــة ويرفع راية الحق ويزهق راية الباطل، وهكذا اليوم نرى أبناء اليمن منذ أكثر من خمس سنوات وهم يؤسسون لبناء قوةٍ إسلامية عسكرية عظمى تدعو إلى إقامة دين الله الحقيقي والقضاء على دين الشعارات والعناوين والمظاهر، وتدعو إلى تحقيق المساواة والعدل بين الناس، قاهرةً طغيانَ وظلمَ محور الشر الذي يريد للأُمَّـة أن تظل خانعةً ذليلةً تقودها الصهيوأمريكية.
ومثلما كان بناء مسجد قباء بمثابة مركز لاستقبال الوفود التي دخلت الإسلام، صارت أَيْـضاً الأرض اليمنية الطاهرة المحرّرة من دنس المحتلّين الغزاة هي الملاذ الآمن التي اتخذت المبادئ والقيم منهجاً وطريقاً للحق بعد أن بذل المسلمون وضحّوا في سبيل الله وفي سبيل سيادة الإسلام وعزة وكرامة المسلمين، فكانت الأرض اليمنية الحرة هي الملجأ لمن عاد إلى جادة الصواب وأنقذ نفسه من الوقوع أكثر في وحل الغزاة الطامعين، وأدرك حجم المؤامرات والمخطّطات التي يرمي إلى تحقيقها تحالفُ دول العدوان.
فالهجرة إذَاً تتحقّق دوافعُها في قهر الظلم والاستبداد ورفض الاستعباد والارتهان لقوى الطاغوت، وهي الصبرُ والثبات وتحمّل المشقات والصّعاب التي اجتاز عتَباتها رجالُ الله بعد أن أثبتوا للعالم عدالة القضية التي لا تزال منذ الهجرة النبوية وحتى اليوم تحمل في مضامينها مبادئ الحق والعدل والسلام والمضي نحو تحفيز الأُمَّــة ودفعها لاتِّخاذ منهاج الرسول في العقيدة والعبادة والتربية والسلوك.
ولذلك ليس بغريبٍ على الشعب اليمني سليل الأوس والخزرج من كان لهما شرف الانتماء للإسلام منذ وقتٍ مبكر من الدعوة، بل كانت من أولى القبائل في الجزيرة العربية التي انتصرت لرسول الله وساهمت في نشر الإسلام والدعوة إليه وتحمُّل مسؤولية المشروع الإلهي والمنهج المحمدي.
وبالمناسبة، فقد أشار السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي -يحفظه الله- في كلمته إلى صفات الأوس والخزرج على ضوء قول الله سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ومن بيان الآية تتجلّى الأوسمة الإلهية التي مُنحت لأنصار الله ورسوله في الصفات التالية:
“تبوؤ الدار والإيمان”
“حب من هاجر إليهم”
“يؤثرون على أنفسهم”
“لا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا”
“نفوسهم خالية من الشح والبخل”
إنه لشرفٌ عظيم جِـدًّا هذه الشهادة الربانية والمنحة الإلهية لعباد الله المؤمنين الذين ارتبطوا بالإيمان، وأحبوا إخوانهم في الله لا لأدنى غرضٍ دنيوي وقد تجسدت فيهم أعلى مراتب القيم الإيمانية، وهي إيثارهم المهاجرين على أنفسهم وكذلك صفاء قلوبهم من الحسد وخلو أنفسهم من الشح والبخل.
هكذا هي الأُمَّــة الإسلامية التي تتحقّق فيها مبادئ الإسلام وقيم الإيمان المتحَرّكة في أرض الواقع المستلهِمة ثمرة البذل وَالتضحيات في سبيل الله والمستفيدة من دوافع الهجرة النبوية ومن أهدافها ونتائجها التي دعت إلى التحرّر وإلى استنهاض الأمم وَمواجهة الظلم والطغيان وتحقيق سيادة الحرية والعدل والإيمان..