حديثنا عن الثورة كحالة تبدل وتحديث لا يعني الانتقاص من قيمة المراحل وهو فهم دأبنا عليه ولكنه يفترض أن ينزاح الى حركة التجديد والتحديث فالحياة في تطور مستمر والجمود هلاك وتحلل وتأسن وهو حالة غير لائقة بالتمدن البشري في كل مراحل التاريخ، وفي المقابل لوقوف عند نقاط مضيئة في الماضي لا يعني تطوراً وثورة، بل يعني الاستسلام والهزيمة لشروط الواقع وأيضاً فهماً قاصراً للحدث وتموجاته وإرهاصاته , فقدرة أي حدث تقاس من خلال الأثر الذي تركه في البناءات وليس من خلال الموقف الوجداني والانفعالي منه .
كل حركة ثورية حقيقية تطمح إلى تحول تاريخي عميق يجعل منها مركزاً مهما في حركة التاريخ ويمكنها مع غيرها من صنع القرار والمبادرة والإسهام في الحضارة الكونية كند وليس كتابع، وهذا ما كانت عليه حركات التحرر في القرن الماضي قبل أن تصاب بالثبات والجمود وقبل أن تتعرض للمؤامرات والاستهداف كالناصرية مثلا وهي تجربة يمكن الاستفادة من تفاعلها مع حركة التاريخ في زمنها ومثل ذلك من تمام الحكمة والعقل، إذ لكل تجربة مراكز قوة ومراكز ضعف وقراءة التجارب تجعلنا أكثر تمكنا من التحكم في مقاليد الثورة والمستقبل.
حملت حركات التحرر في القرن الماضي الكثير من الإجابات عن السؤال الحضاري وقطعت شوطا – قد يكون صائبا أو خاطئا لكن له حظ وأجر المجتهد – في التفاعل مع السائد ووضعت شروطا جديدة في علاقة الإنسان بالدين وبالعلم وبالكون وبالحضارة والمجتمع والاقتصاد والتقنية والفن والسياسة وأن شاب ذلك البطء في حركة التطور والعنف في أحيان كثيرة كصفة لازمة للحركات الثورية في ذلك الزمن إلا أنها حاولت أن تحدث قدراً من التحديث في سبيل النهضة .
كان العرب في القرن العشرين صورة مماثلة للماضي الذي جثم على صدورهم منذ القرن السادس عشر الميلادي يعيشون واقعاً مريراً ومآسي كثيرة وأوضاعاً معقدة سواء في الجانب المادي اليومي أو الرمزي الحياتي ووصل الركود والجمود المقدس والوجدان واللغة والتقنية أي أن الواقع كان يتسم أو يمتاز أنه واقع مأزوم تاريخه معطل وغير مكتمل منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي إلى القرن العشرين، وهو تاريخ يمتد لقرون لم يعرف العرب فيه طعم الاستقلال الحقيقي ولا معنى الحرية الكاملة ولم يصلوا إلى زمنهم التحرري الذي اتسم به النصف الأول من القرن العشرين إلا بعد حروب وأزمات ونضالات وتضحيات وبعد هدر كبير للطاقات المادية والبشرية والثقافية والرمزية والنفسية وبالرغم من كل ذلك، إلا أن العرب لم يصلوا إلى مبتغاهم في التصالح مع التاريخ الذي يحقق لهم القدر الكافي من التوازن في العلاقات مع الآخر أو في فك الإشكاليات بين قضايا شائكة مثل الأصالة والمعاصرة والتراث والتاريخ ولذلك لم تكتمل نهضتهم بفعل عوامل المستعمر وتداخله في صناعة واقعهم فقد رحل المستعمر عن الديار العربية شكلا وظل يتحكم بالمصير العربي وبمصادر الطاقة ضمناً ولذلك نقول أن التاريخ قد مكر بالعرب ولم يتحقق لهم الاستقلال .
التاريخ العربي يختلف عن غيره لأنه يخضع لمنطق مختلف ومتغاير عما سواه ولذلك نقول باستحالة نقل التجارب الغربية أو غيرها، فالتاريخ لا يُستورَد كما نستورد السلع , والوعي بضرورة الإصلاح لا يعني بالضرورة الرجوع إلى صدر الإسلام كما تذهب بعض الفرق فذلك مستحيل وفي المقابل لا يعني نقل تجارب الغرب المتحضر فذلك مستحيل أيضا باعتبار الحداثة ليست تحديثا ولكنها نسق فكري ثقافي حضاري تقدمي تقدم عليه أمة أو جماعة لإنجازه بخطاب وتقنيات ومعطيات قادرة على التفاعل وفرض طابعها الخاص الذي تتسم به المرحلة أو يتسم المستوى الحضاري الحديث .
فالثورة الحقيقية هي التي تحمل مشروع دولة ومشروع مجتمع وتكون على قدر من التحرر من الغرب ومن الماضي لتبدع وتبتكر واقعا جديدا يمتاز بالاستقلال والمعرفة والخصوصية التي تكون تعبيرا عن العرب والمسلمين وعن هويتهم الثقافية والحضارية ذات رؤية في البناء الذي يقضي على الشتات السياسي ويحاول إنجاز القوة الاقتصادية والديمغرافية في عالم أصبح ينمو بسرعة البرق في اتجاه التكتلات السياسية والاستراتيجية الكبيرة والفاعلة في القرارات الإنسانية الكبرى من حروب وسياسات وثقافات وغيرها من الأدوات القادرة على الإقصاء والإضعاف.
مشكلتنا في مجتمعاتنا العربية أننا نرى الوصول إلى السلطة هو الغاية وحين نصل إلى السلطة لا نفكر في مشروع بناء الدولة لذلك وقعنا في عمق الأزمات المعقدة ولم نستطع حل قضايا حقيقية ومعقدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها مثل فكرة الاستقلال وفكرة تطوير المجتمع وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع، فلا يمكن اختزال حركة الثقافة والمجتمعات إلى “نمطية مماثلة” كونها ليست جامدة أو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًا، يؤثر ويتأثر ويفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محددة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشارك الأفراد في تكوينه. ومع هذا التصور الدينامي للثقافي، تدرك الهوية بحد ذاتها كجدل إنساني واجتماعي، وتكون الهوية في ضوء هذه المقاربة صيرورةً تكوّن نسقًا ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين، بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه الموروث والسائد، حيث يتطورون معًا. ووفق تحقق الهوية كصيرورة جدلية، بالمعنى التكاملي للأضداد، فهي تجيز بذلك بروز الفروق الفردية، ومطابقة الفرد مع الجماعة التي ينتمي إليها، وفي ضوء هذه المقاربة فقط، يمكن فهم: كيف يصبح الفرد عاملًا في بناء ثقافته وفي بناء هويته الذاتية، وكيف يكوّن هؤلاء الأفراد أنظمة ثقافية جماعية تتخطاهم كأفراد.
ولذلك نقول أنه لا يجوز تحليل الوعي المجتمعي، من خلال مواقع طبقية أو إيديولوجية واحدة، لأنه سيكوّن قراءة منحازة ، فنحن نخطئ إذا استنتجنا أن الأفكار التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأسلوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هوية ثقافية”.
وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات لا يكونون فيها كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.