البردوني نبي عصره، ليس عصره فحسب، بل تنبأ بأحداث عصور لم تأتِ، فسابق الزمن بُعداً وحضوراً، ونبأ، كنت أظن أني سأجده يتساءل عن ما يحدث، فإذا بي أجده يخبر عن كل تساؤل، وهذا المنحى ليس غريباً على كل من قرأ أو اطلع على شعر البردوني، فلا نجد استحضار شعر يصف صنعاء أو يتغنى بها، بل نجدنا أمام نص أدبي يحتم علينا استبطانه، ومحاولة اكتشاف أو استكشاف رموزه وإيماءاته، لمعرفة رؤية شاعرنا عن ما يحدث، وإلى أين تؤول الأحداث، وما مدى حضور صنعاء في شعره، وبأي شكل، وكيف تناولها، فعن صنعاء يتساءل، بل يقف مخبراً بصيغة المستفسر:
ماذا جرى ..؟ لم يجر شيء هنا صنعاء لا فرحى … ولا آسفه
القات ساهٍ … والمقاهي على أكوابها محنية عاكفه
ماذا جرى ..؟ لا حسّ عما جرى ولا لديه ومضة هادفه
ماذا يعي التاريخ ..؟ ماذا رأى ؟ ولّى بلا ذكرى … بلا عاطفه
وكأني به عندما طال العدوان قبره الشريف ينهض ساخراً:
أتدرين يا صنعاء ماذا الذي يجري تموتين في شعب يموت ولا يدري
تموتين … لكن كلّ يوم وبعدما تموتين تستحين من موتك المزري
تموتين … لكن في ترقب مولد فتنسين أو ينساك ميعاده المغري
وهنا يخرج إلينا لا ليسأل ما الذي حدث، بل ليروي لنا تفاصيل ما يحدث، لكنه تتزاحم في مخيلته تفاصيل كثيرة من أحداث يراها بنور بصيرته، فيتساءل من أين يبتدئ:
من أين أبتدىء الحكاية ؟ وأضيع في مد النهاية
وأعي نهاية دورها فتعود من بدء البدايه
تصل الخطيئة بالخطيئة والجناية بالجنايه
من عهد من ولدوا بلا سبب وماتوا دون غايه
المسبلين على الذئاب البيض أجنحة الرعايه
الناسجين عروقهم لمواكب الطاعون رايه
من حوّلوا المستنقعات الجائعات إلى النفايه
أنصاف آلهة مطوقة بأسلحة العنايه
ووجوههم كاللافتات على مواخير الغوايه
كانوا ملوكا ظلّهم حرم ورقيتهم حمايه
فلحومنا لخيولهم مرعى وأعظمنا سقايه
وبيادر تعطيهم حبّات أعيننا جبايه
والله والإسلام في أبواقهم بعض الدعايه
ويود شاعرنا أن يصغي الكون بكله لما يدور بخلده من رؤى، فيذهب لمناداة الهدهد يستدعيه ليمكث غير بعيد منه يودعه مكنونه، كي ينطلق مرةً أخرى في مهمته، ليس نحو سليمان هذه المرة، بل من البردوني نفسِه إلى كل ذي سمع في هذا الزمن محدثاً عن صنعاء، ويخاطب العالم أجمع: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} لكن بعد أن يسمع البردوني وهو يقول:
يا ((هدهد)) اليوم ، الحمولة فوق طاقتك القويّه
هذي حقائبك الكبار تنمّ عن خبث الطويّه
هل جئت من سبإ ؟ وكيف رأيته ؟.. أضحى سبيه !
ولّى ، عليه عباءة من أغنيات (الدودحيه)
سقط المتاجر ، والتجا رة ، والمضحّي ، والضحيه
حتى البقاع هربن من أسمائهن الحميريّه
هل للقضيّة عكسها ؟ هل للحكاية من بقيّه؟
كل الحلوق أقل من هذي الجبال اليحصبيّه
كلّ السلاح أقلّ من هذي الملايين العصيّه
(صنعاء) من أين الطريق ؟ إلى مجاليك النقيّه
وإلى بكارتك العجوز إلى أنوثتك الشهيّه
يا زوجة السفّاح والسمـ ـسار يا وجه السبيه
سقطت لحى الفرسان والتحت المسنّة والصبيّه
وحال تلقينه الهدهد بوحه يستنكر ثقافة الانهزام ويمقت العمالة بسخرية لاذعة، ويجعل من الشعر سلاحاً قوياً:
أوليس فلسفة الهزيمة أن أموت تعقليه؟
وهل العمالة حكمة؟ وهل الشجاعة موسميه؟
اسكت... ولكن لست من أبطال تلك المسرحيه
بعد الغروب سترغبين كشمسك البكر الجريه
اسكت... لأن الجو أحجار حلوق بربريه
الشعر أقوى فاعزفي رئتيك أو موتي شقيه
ويبدأ شاعرنا بذكر الأحداث جامعاً بين الربيع والعاصفة والحرب، والثورة:
ذات يوم ربيعي الضحى نبحت (صنوان) عاصفة تعوي وتنفجر
من ذا أهاج رماد الأمس فاشتعلت في أعين الريح من ذراته شرر
أهذه الحرب يا تاريخ كيف ترى من خلف (جنات عدن) أومأت (سقر)
ومر عام جحيمي روائحه دم بحشرجة البترول متزر
ودب ثانٍ خريفي المدى قلق يفني ويفنى ويحيا وهو ينتحر
وطال كالسهد حتى انهد في دمه تثاءبت من بقايا وجهه الحفر
وغاب خلف الشظايا فابتدت سنة تعبئ النار ثدييها وتعتصر
فأجهد الموت شدقيه وقبضته حتى تجلمد في أنيابه الضجر
وقال كل نهار: لن تنال يد من ثورة مات في ميلادها الخطر
لا يتفاجأ شاعرنا من القصف؛ لأنه يدركه، كيف لا وهو القائل:
فليقصفوا لست مقصف وليعنفوا أنت أعنف
وليحشدوا أنت أدرى أن المخيفين أخوف
أغنى ولكن أشقى أوهى ولكن أجلف
أبدى ولكن أخفى أخزى ولكن أصلف
لهم حديد ونار وهم من القش أضعف
يخشون إمكان موتٍ وأنت للموت أألف
وبالخطوات أغرى وبالقرارات أشغف
لأنهم لهواهم وأنت بالناس أكلف
لذا تلاقي جيوشاً من الخواء المزيف
يجزئون المجزأ يصنفون المصنف
يكثفون عليهم حراسةً أنت أكثف
يا مصطفى يا كتاباً من كل قلبٍ تألف
ويا زماناً سيأتي يمحو الزمان المزيف"
بل نجده يرحب بها، مشيراً إلى أحداث الجنوب، ويتجلى سر تزامن أحداث الجنوب مع العدوان السعودي، في ربطه بين العاصفة وبين الجنوب:
أهلاً بعاصفة الحوادث، إنها في الحي أنفاس الحياة تردد
لو هزت الأحداث صخراً جلمداً لدوى وأرعد باللهيب الجلمد
بين الجنوب وبين سارق أرضه يوم تؤرخه الدما وتخلد!
ويشيد بالشعب اليمني وصموده واستبساله، وسقوط الطغاة، وانهزام الغاصبين:
الشعب أقوى من مدافع ظالمٍ وأشد من بأس الحديد وأجلد
والحق يثني الجيش وهو عرمرمٌ ويفل حد السيف وهو مهند
لا أمهل الموت الجبان ولا نجا منه، وعاش الثائر المستشهد
يا ويح شرذمة المظالم عندما تطوى ستائرها ويفضحها الغد!
وغداً سيدري المجد أنا أمةٌ يمنيةٌ شما، وشعب أمجد
وستعرف الدنيا وتعرف أنه شعب على سحق الطغاة معود
فليكتب المستعمرون بغيظهم وليخجلوا، وليخسأ المستعبد
ويتحدث عن التحالف كاشفاً أن وراءه أمريكا في أسئلة استنكارية:
و كيف استثار علينا القطيع ؟ و من ذا هداه ؟ و كيف اهتدى ؟
هنا موكب أبرقت سحبه علينا وحشد هنا أرعدا
وهزّ القصور فمادت بنا و أشغل من تحتنا المرقدا
و كادت جوانحنا الواجفات من الذعر أن تلفظ الأكبدا
فماذا رأت دولة المخجلات؟ قوى أنذرت عهدها الأنكدا
بمن تحتمي ؛ واحتمت بالرصاص وعسكرت اللّهب الموقدا
و لحّنت الغدر أنشودة من النار تحتقر المنشدا
و نادت بنادقها في الجموع فأخزى المنادي جواب الندا
و هل ينفد الشعب إن مزّقته قوى الشر ؟ هيهات أن ينفدا
ويستنكر تكالب قوى العدوان مع العدو السعودي على الشعب اليمني الأعزل:
وجبن القوى أن تعدّ القوى لتستهدف الأعزل المجهدا
و أردى السلاح لأردى الأنام وأجوده ينصر الأجودا
و يوم البطولات يبلو السلاح إذا كان وغدا حمى الأوغدا
فأيّ سلاح حمى دولة تغطّي المخازي بأخزى ردا ؟
و تأتي بما ليس تدري الشرور و لا ظنّ " إبليس " أن يعهدا
لمن وجدت ؟ من أشذّ الشذو ذ و من أغبن الغبن أن توجدا
ويشير إلى تعدد أنواع القصف، واختلاف مكانه بقوله:
ألا اقتلْ كل مَن تلقى إذا استبقيت لن تبقى
لأن القتل بعد القتل طبّ الأمة الحمقى
قتلت قتلت، لا جدوى غدوت الأقتلَ الأشقى
أبتّ جذورها، تنمو أحزّ رؤوسها، ترقى
وأدفن مَن تُسمّيهِ نقيّاً، يصعد الأتقى
بكل النار أشويها ومِن جمراتها تُسقى
هنا تنهلُّ أمطاراً هناك تُكثّف البرقا
وتحت قذائف (النابلم) تندى، تحرق الحرقا
وفي نهاية هذا المقطع من هذه القصيدة كأنه يشير إلى رد اليمنيين على العدوان:
وتبدو أنجماً خضراً ربىً وردّية زرقا
ترود قرارة الأغوار كي تستبطن العمقا
وكأنه يشير إلى العمق السعودي، ففي حديث له عن معارك سابقة مع السعودية يتنبأ تحت عنوان: "في وده الغزوة الثالثة" بالتحامٍ جديدٍ في المستقبل، وتحديداً فوق أبهى ونجران وجيزان والوديعة:
قبل عام وأربعين اعتنقنا فوق (أبهى) عناق غير الأحبه
والتقينا به (بنجران) حينا والتقينا بقلب (جيزان) حقبّه
والتقينا على (الوديعة) يوما والمنايا على الرؤوس مكبّه
وفيها يشير إلى العلاقة الأمريكية السعودية في هذه الحرب:
خصمنا اليوم غيره الأمس طبعا البراميل أمركت (شيخ ضبّه)
عنده اليوم قاذفات ونفط عندنا موطن ، يرى اليوم دربه
عنده اليوم خبره الموت أعلا عندنا الآن ، مهنة الموت لعبه
صار أغنى ، صرنا نرى باحتقار ثروة المعتدي ، كسروال (قحبه)
صار أقوى … فكيف تقوى عليه وهو آت ؟ نمارس الموت رغبه
وندمّي التلال ، تغلي فيمضي كلّ تلّ دام ، بألفين ركبه
ويجيد الحصى القتال ، ويدري كلّ صخر ، أنّ الشجاعة دربه
يصعب الثائر المضحّي ويقوى حين يدري ، أنّ المهمة صعبه
وهذه القصيدة (في وجه الغزوة الثالثة) كتبها في فبراير 1975م، وجوه دخانية في مرايا الليل، في الطبعة القديمة للديوان، كلمة (جيزان) هذه المفردة بلهجتها اليمنية والتاريخية المعروفة:
وَالتقينا بهِ (بنجران) حيناً والتقينا بقلب (جيزان) حقبّه
إلا أنّ النفط السعودي في طبعة 2010م/ ضمن (إصدارات تريم عاصمة الثقافة) حولها إلى لفظٍ سعودي لم يتلفظ به شاعرنا، فكتبوا (جازان). وأصبح البيت الشعري ممجوجاً بشكلٍ يبعث على الريبة من حقيقة ما يصلنا من مطبوعات لأعمال الشاعر الكبير البردوني، ويجعلنا ندرك حجم الخطر المحدق بالثقافة اليمنية التي استطاع النفط الوصول إلى عمقها، والتدخل في تعديل مفرداتها وفق منظوره الاستعماري، ومشروعه القائم على طمس معالم حضارتنا وثقافتنا.
ويؤكد رد الشعب على العدوان في موضع آخر:
هو الشعب طاف بإنذاره على من تحدّاه و استعبدا
وشقّ لحودا تعبّ الفساد و تنجرّ تبتلع المفسدا
و أوما بحبّات أحشائه إلى فجره الخصب أن يولدا
أشار بأكباده فالتقت حشودا مداها وراء المدى
وزحفا يجنّح درب الصباح و يستنفر الترب والجلمدا
و ينتزع الشعب من ذابحيه و يعطي الخلود الحمى الأخلدا
و يهتف: يا شعب شيّد على جماجمنا مجدك الأمجدا
وعش موسما أبديّ الجنى و عسجد بإبداعك السرمدا
و كحّل جفونك بالنيّرات وصغ من سنى فجرك المرودا
لك الحكم أنت المفدى العزيز علينا و نحن ضحايا الفدا
ودوّى الهتاف : " اسقطوا يا ذئاب" و يا راية الغاب ضيعي سدى
لا نزال مع البردوني وهو يستعرض أحداث العدوان على اليمن، ولا نزال بحاجة إلى المزيد في الاقتراب من نصوص البردوني نتأملها ونستبطن مغازيها، وهو يوثق مثل هذه الأحداث ببصيرة عميقة، وبُعد أكثر عمقاً، فبعد أن تحدث عن وقائع العدوان في صنعاء، وذكر الربيع والعاصفة، وايضاحه التحالف المزعوم على اليمن، وبيان من وراءه، ورد اليمنيين، يأخذنا شاعرنا الكبير لنتخيل أنه مبتعث في رحلة خارجية، يظهر فيها بشاعة العدوان، وحجم الدمار، ولكن ليس إلى جنيف، وليس لدى مبعوث الأمم المتحدة، بل إلى المربد في بغداد، وبين يدي أبي تمام يقف أمامه يقلب بين يديه بصمات العدوان، ويشكو واقع العرب بقوله:
(حبيب) وافيت من صنعاء يحملني نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟ مليحة عاشقاها: السل والجرب
ماتت بصندوق »وضاح«بلا ثمن ولم يمت في حشاها العشق والطرب
كانت تراقب صبح البعث فانبعثت في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب
لكنها رغم بخل الغيث ما برحت حبلى وفي بطنها (قحطان) أو(كرب)
وفي أسى مقلتيها يغتلي (يمن) ثان كحلم الصبا... ينأى ويقترب
حبيب تسأل عن حالي وكيف أنا؟ شبابة في شفاه الريح تنتحب
كانت بلادك (رحلاً)، ظهر (ناجية) أما بلادي فلا ظهر ولا غبب
أرعيت كل جديب لحم راحلة كانت رعته وماء الروض ينسكب
ورحت من سفر مضن إلى سفر أضنى لأن طريق الراحة التعب
لكن أنا راحل في غير ما سفر رحلي دمي... وطريقي الجمر والحطب
إذا امتطيت ركاباً للنوى فأنا في داخلي... أمتطي ناري واغترب
قبري ومأساة ميلادي على كتفي وحولي العدم المنفوخ والصخب
حبيب هذا صداك اليوم أنشده لكن لماذا ترى وجهي وتكتئب؟
ثم يحكي المنعطف الذي تمر به صنعاء، فيقول:
لم تعد نهنأ ، ولا نأسى ، ذوت خضرة الأُنس ، خبت نار الترح
أو خبا الحسّ الذي كنّا به نطعم الحزن ، ونشتمّ المرح
لم يعد شيء كما نألفه فعلام الحزن أو فيما الفرح؟!
دخلت (صنعاء) باباً ثانياً ليتها تدري ، إلى أين افتتح
ويستمر في توضيح نكبة بلاده وما تعرضت له، وكأنه في قصيدة "سفاح العمران" يخاطب سلمان:
يا قاتل العمران .. أخجلت المعاول .. والمكينة
أَلِأَنَّ في فمك النقود وفي يديك دم الخزينة ؟
جرّحت مجتمع الأسى وخنقت في فمه .. أنينه
وأحلت مزدحم الحياة خرائباً ، ثكلى ، طعينه
ومضيت من هدم إلى هدم ، كعاصفة هجينه
إلى أن يقول:
يا وارثاً عن ((فأر مأرب)) خطّة الهدم اللّعينه
حتى المساجد ، رعت فيها الـ ـطّهر ، أقلقت السّكينه
يا سارق اللّقمات من أفواه أطفال المدينه
يا ناهب الغفوات ، من أجفان ((صنعاء)) السّجينه
من ذا يكفّ يديك، عن عصر الجراحات الثخينه
من ذا يلبّي، لو دعت هذي المناحات الدّفينه
من ذا يلقّن طفرة الـ إعصار ، أخلاقاً رزينه
نأت الشواطئ ، يا رياح فأين من ينجي السّفينه ؟!
ويستنكر عليه قيادته هذا التحالف على اليمن بما أسماها عاصفة الحزم:
عرفتَ اليومَ كيف ترى بدأتَ أوانكَ الذهبي
ستثني كل عاصفةٍ بهذا المشجب القصبي
بأفواجٍ مِن الأغراب تدعى: الفيلق العربي
وهذا ما ارتكبتُ أنا فهل تبني على كَذِبي؟
وعن الحصار الاقتصادي المترافق مع القصف، يسأل سلمان متنبئاً بمصيره:
لماذا لي الجوع و القصف لك ؟ يناشدني الجوع أن أسألك
و أغرس حقلي فتجنيه أنـ ـت ؛ و تسكر من عرقي منجلك
لماذا ؟ و في قبضتيك الكنوز؛ تمدّ إلى لقمتي أنملك
و تقتات جوعي و تدعى النزيه؛ وهل أصبح اللّصّ يوماً ملك ؟
لماذا تسود على شقوتي؟ أجب عن سؤالي و إن أخجلك
و لو لم تجب فسكوت الجوا ب ضجيج ... يردّد ما أنذلك !
لماذا تدوس حشاي الجريح؛ وفيه الحنان الذي دلّلك
و دمعي؛ و دمعي سقاك الرحيق أتذكر " يا نذل " كم أثملك !
فما كان أجهلني بالمصير وأنت لك الويل ما أجهلك !
غداً سوف تعرفني من أنا ويسلبك النبل من نبّلك
ففي أضلعي . في دمي غضّبة إذا عصفت أطفأت مشعلك
غداً سوف تلعنك الذكريات ويلعن ماضيك مستقبلك
و يرتدّ آخرك المستكين بآثامه يزدري أوّلك
و يستفسر الإثم : أين الأثيم ؟ و كيف انتهى ؟ أيّ درب سلك
ويفصل أكثر في توصيف سلمان وحكمه، مستنكراً عقد الأمل عليه، أو رجاء خير منه:
يدني إلى الموت حكماً يخوض من العار مستنقعاً أسودا
ويجترّ أذيال " جنكيزخان " ويقتات أحلامه الشردا
و يحدو ركاب الظلام الأثيم فيبلغ الصمت رجع الحدا
و يحسو النّجيع و لا يرتوي فيطغى ؛ و يستعذب الموردا
رأى الشعب صيدًا فأنحى عليه وراض مخالبه واعتدى
فهل ترتجيه ؟ و من يرتجي من الوحش إصلاح ما أفسدا ؟
و هل تجتدي ملكاً شرّه سخيّ اليدين ... عميم الجدا ؟
و حكماً عجوزاً حناه المشيب و ما زال طغيانه أمردا
تربّى على الوحل من بدئه وشاخ على الوحل حيث ابتدا
فماذا يرى اليوم ؟ جيلًا يمور ويهتف " لا عاش حكم العدا "
ويتنبأ بمدة العدوان ونهاية سلمان فيقول:
سيلقى ليلةَ خلَفي على كفيكَ مُنقلبي
فمنذ الآن يرقبهُ مصيرٌ كان مرتقبي
وأنت ستحتمي سَنَةً وتهوي، لاحقاً عقبي
وخلال رحلته يلتقي بخونة الوطن الفارين إلى أحضان المترفين، فيصف حالهم:
ذات يوم كانت ممرات(صنعاء) من نبيذ ومن زهور نوادي
تتهادى النجوم في كلّ درب كالغواني . فأين ذاك التهادي ؟
سألوا من أنا … وصرّحت باسمي كاملًا … أنكروا بأني (مرادي)
قلت (ابّي) .. (عنسي) .. (زبيدي) أشاروا: الريالات نسبي وبلادي
أضحكتهم كتابة اسمي … وفورا بيضت خضرة النّقود مدادي
عنده نعجة فأمسى مديرا! نهد أنّى مؤهّل غير عادي
لحليب الذي يسمّى جلودا طازجات .. أمسى سرير (ابن هادي)
قبل بدء الزواج طلّقت. صارت كلّ زوجاتهم .. خيول رقادِ
كان يخشى أبي فسادي ويبني يوم عرسي . رفضت .. عاش فسادي
كنت أعتادها (غزلا) .. فأضحت (فاتنا) .. ودّع الهوى يا فؤادي
وفي استنكار لما آلوا إليه يحاول شاعرنا أن يقترب من حالتهم ليشخص ما أصابهم:
فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري
غزاة لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري
فقد يأتون تبغاً في سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشي يؤنسن وجهه الصخري
وفي أهداب أنثى في مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذ وتحت عمامة المقري
وفي أقراص منع الحمل وفي أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيان وفي عبثية العمر
وفي عَود احتلال الأمـ ـس في تشكيله العصر
وفي قنينة الوسكي وفي قارورة العطر
ويستخفون في جلدي وينسلون من شعري
وفوق وجوههم وجهي ونحت خيولهم ظهري
غزاة اليوم كالطاعون يخفى وهو يستشري
يحجر مولد الآتي يوشي الحاضر المزري
فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن
جنوبيون في ( صنعاء) شماليون في ( عدن )
وكالأعمام والأخوال في الإصرار والوهن
خطى أكتوبر انقلبت حزيرانية الكفن
ترقى العار من بيع إلى بيع بلا كفن
ومن مستعمر غاز إلى مستعمر وطني
لماذا نحن يا مربي ويا منفى بلا سكن
بلا حلم بلا ذكرى بلا سلوى بلا حزن ؟
يمانيون يا(أروى) ويا (سيف بن ذي يزن)
ولكنا برغمكما بلا يُمن بلا يمن
بلا ماض بلا آتٍ بلا سر بلا علن
أيا (صنعاء) متى تأتين؟ من تابوتك العفن
أتسألني أتدري؟ فات قبل مجيئه زمني
متى آتي ألا تدري إلى أين انثنت سفني
لقد عادت من الآتي إلى تاريخها الوثني
فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
ثم ينتقل البردوني العظيم ليحكي على ألسنتهم:
شعاري اليوم يا مولاي نحن نبات إخصابك
لأن غناك أركعنا على أقدام أحبابك
فألهناك قلنا: الشمـ ـس من أقباس أحسابك
فنم يا (بابك الخرمي) على (بلقيس) يا (بابك)
ذوائبها سرير هواك وبعض ذيول أربابك
وبسم الله جل الله نحسو كأس أنخابك
أمير النفط نحن يداك نحن أحد أنيابك
ونحن القادة العطشى إلى فضلات أكوابك
ومسئولون في (صنعاء) وفراشون في بابك
ومن دمنا على دمنا تموقع جيش إرهابك
لقد جئنا نجر الشعـ ـب في أعتاب أعتابك
ونأتي كل ما تهوى نمسح نعل حجابك
ونستجديك ألقابا نتوجها بألقابك
فمرنا كيفما شاءت نوايا ليل سردابك
نعم يا سيد الأذنا ب إنا خير أذنابك
رحلتنا مع البردوني وهو يتحدث عن العدوان الغاشم وأغلب تفاصيله، وهو ينظر ببصيرة كبيرة، يتطلع مستقبل اليمن، وزوال العدوان، لا تزال مستمرة، إلا أن هذه الحلقة آخر فصول الرحلة الأدبية مع أديب عملاق في حجم البردوني، فبعدما تحدث عن تفاصيل دقيقة في أحداث العدوان، وبعد رحلته إلى المربد ليشرح أمام أبي تمام وضع اليمن وموقف العرب منه، نجده يحزم ما بجعبته من ألم عائداً من تمثيل رائع لوطنه، ومآسيه وما يعاني، وخلال عودته وعلى متن الطائرة، لا تغيب عنه معاناة شعبه، الطائرة حاضرةٌ في شعره، لكن لا أدري هل هي أيضاً لم يسمح لها بالهبوط، كل ما في الأمر أنه في قصيدته "صنعاء في طائرة" يصور حال صنعاء وما وصلت إليه، بقوله:
على المقعد الراحل المستقرّ
والنصر هو ما نختتم به رحلتنا مع البردوني، النصر وليس سواه شيء آخر، متمنين للوطن والشعب والأمة الإسلامية نصراً مؤزراً،