منذُ كتب بريجنسكي كتابَه «بين عصرين» والذي تحدث فيه قائلاً: إن الرأسماليةَ تواجهُ هزيمةً أيديولوجيةً وفكريةً كبيرة جِـدًّا، ويأتي في سياق كتابه ذلك أن الحلَّ الوحيد هو إحياء ما أسماه «الأصوليات الدينية» ودفعها للتصادم مع المنظومة الشيوعية والاشتراكية وحركات التحرّر عندها -حسب رؤيته في مضمون كتابه الصادر في مطلع عقد السبعينيات- سوف تُهزم الشيوعية والاشتراكية بقوة الأصوليات الدينية، وهزيمةُ تلك المنظومة سيوفرُ للرأسمالية الأمريكية فرصاً استراتيجيةً كبرى لإعادة تنظيم العالم تحت قيادتها.. ووفقاً لهذا المنطلق النظري تبنت السياسةُ الأمريكية منذ عهد كارتر الذي رأس أمريكا في الفترة من «1977-1981» خطةً استراتيجيةً لدعم الأصوليات الدينية، ليس حباً في الدين وإنما من باب كراهية الشيوعية وحركات التحرّر، ورغبة في حماية المصالح الاستراتيجية لأمريكا.
والملاحَظُ أنه في فترة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والممتدة من «81-1989م» تعاظَمَ المَدُّ الأصولي وقويت الحركاتُ الأصولية الدينية «الإسلامية واليهودية والمسيحية والهندوسية» في العالم كله، وذلك النشاط المستعر والمحموم أَدَّى إلى تحقيق أهمِّ الخطوات التمهيدية للسيطرة على العالم وذلك لتفكيك المنظومة الاشتراكية وإزالة العقبة الشيوعية، وإشعال أَو استنزاف وشرذمة حركات التحرّر في الأقطار العربية، وفرض شروط الاستسلام للصهيونية في فلسطين.
في نهاية عقد السبعينيات، وصل الإمام الخميني للحكم في إيران وبرز في نفس الفترة المجاهدون الأفغان، ويومذاك استثمرت أمريكا الصراعَ، وتأصلت في المعتقدات الأصولية فكرةُ أن انتصارَ أي دين مرهونٌ بدحر بقية الديانات وليس عبر التعايش السلمي بينهم.. ومن يعود إلى مرجعيات تلك الحقبة الزمنية يجد ذلك شائعاً في الخطاب الثقافي والسياسي والإعلامي، ومن نافلة القول إن الهدفَ من تلك الاستراتيجيات التي كانت تتبناها دوائر صُنع القرار الأمريكي «الكونجرس والبنتاجون بكل منظومته الأمنية والعسكرية والاستخبارية» هو تفتيت وتفكيك الأمم على أُسُسِ ما قبل الدولة الوطنية لتسهيل السيطرة عليهم، وذلك عن طريق العصبيات الطائفية والعِرقية والحضارية لكون أمريكا وصلت إلى مرحلةِ الشيخوخة وأصبح نظامها الرأسمالي عاجزاً عن توفير احتياجات امبراطوريتها وما لم يتم تمزيقُ الأمم لتغذية الخلافات والصراعات بينهم، فهي تدركُ أنها ستكون عاجزةً عن السيطرة على الموارد، وبالتالي تزداد أزمتُها البنيوية اتِّساعاً؛ ولذلك سعت إلى القضاء على محركات الثورة كالحركة القومية العربية، وأعلنت حربها على العراق في مطلع عقد التسعينيات وكان حزب البعث هو حركة التحرّر التي تهدّدها بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي؛ لذلك أشعلت الفتنَ الطائفية في العراق وحروب الأديان حتى تستطيع فرضَ نمط يخلّصُها من الصراعات ويبعدُها عن شبح الانهيارات، وهي اليوم كما هو واضح للعيان قد ساهمت في خلق “إسلام سُني” يواجِهُ بكُلِّ رباطة جأش الإسلام الشيعي ولم نعد نسمع عن الأزمات الاقتصادية التي كانت تبدو كشبح يهدّد بنيتها الامبراطورية بالفناء والتلاشي والاضمحلال، بل كادت تتجاوز تلك الأزمات بفضل حركة الدمار الشامل التي يقودها المسلمون ضد بعضهم، وبعد أمد لن يطول يصبح التوفيق بين المسلمين مستحيلاً، وتسعى الصهيونية العالمية إلى أن تكون المواجهة بين المعسكرين السني والشيعي أبدية لتصل إلى مرحلة التدمير الشامل، وبحيث يتحول العرب والمسلمون إلى كتلة تاريخية محاربة لا تحب السلام والاستقرار تحَرّكهم الأحقاد والعصبيات والثارات، وهي حالة لا تنسجم مع حالة العالم ولا مع مصالحه، وعند هذه النتيجة قد ينشأ توافقٌ عالمي على ضرورة القضاء على الإسلام؛ باعتبَاره الحلَّ الوحيدَ لإنقاذ العالم من شروره.
مثل هذه الرؤى ليست من نسج الخيال ولكنها استراتيجيات مدركة وواعية أفصحوا عنها في خطابهم الثقافي والإعلامي، بَيْـدَ أن العرب قوم لا يفقهون ولا يقرأون وهم يتعرضون لتلك المؤامرات بل كاد البعض أن يستغرق ذاته في العدوات ويمعن فيها وقد تم تخصيص فضائيات لتنمية تلك العدوات مهمتها التفكيك وتسفيه المعتقدات والنيل من الرموز الدينية، وفي ظنهم أنهم يحسنون صُنعاً ويخدمون الإسلام ولم يعلموا أن سعيهم قد ضل ضلالاً كَبيراً، والمشكل الأكبر أن ذلك يتم بأموال المسلمين في الجزيرة والخليج.