تُجمعُ الأمم والشعوب على أهمية الكتاب في تعزيز عوامل النهضة , بل كاد النص المقدس في كل الكتب السماوية وبتواتر يرى أن الكتاب هو الضابط لتفاصيل نظام الوجود، وقيل إن الغرض من الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الإنسان ليبدع واقعه وفق سنن الله وفطرته .
وحين ورد ذكر الكتاب في القرآن الكريم كان الحقل الدلالي للمفردة يتسع بشكل أفقي ويتكثف بشكل رأسي في الحقل الدلالي الذي يدل عليه السياق في النص المقدس، لكن الدلالة في كل الأحوال لا تخرج عن الحقل الدلالي المعرفي والحقل الدلالي الأخلاقي، ولذلك كان الكتاب مرتبطا ارتباطا عضويا بحركة الحياة وبتحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع وبين المجتمع مع الله.
قضية الكتاب هي في المحل الأعلى , فبها ومن خلالها يتحدد مسار الأمم , وبها ترسم الأمم معالم نهوضها في كل مراحل التاريخ , ولم نشهد في كل حقب التاريخ حياة باذخة , ولا حضارة باذخة إلا وكان الكتاب هو سر تلك الحياة , وسر تلك الحضارة .
ففي الحقبة اليونانية كان للفلسفة الكلاسيكية اليونانية الدور الأكبر في التأثير على كل مراحل التاريخ وما يزال أثرها ممتدا إلى الزمن الحديث، ولذلك يرى الكثير أن اليونان تشكل الجذر الحقيقي في تشكيل أسس الثقافة الغربية الحديثة, فالمعرفة هي من تؤثر في السياق الحضاري للأمم وليس غيرها .
وحين جاء الإسلام لم يكن منفصلا عن المعرفة , ولذلك فحين اكتملت صورته في العصر العباسي وقاد موكبا حضاريا بهيجا ومؤثرا , كان الكتاب هو منطلق ذلك الموكب , وازدهرت صناعة الكتاب في الدولة العباسية , وكان للوراقين مكانة عظيمة في السياق العام للدولة العباسية , وحين حاول المغول القضاء على تلك الحضارة البديعة لم ينتقموا سوى من الكتاب , وتحكي كتب التاريخ أن هولاكو أحرق الكتب وأغرقها في نهري دجلة والفرات , وتقول بعض الروايات أن ماء النهرين ظل أياما مُسودّا يحكي صورة الحبر الذي حوته الكتب .
فكل نهضة لا يحضر فيها الكتاب كحالة متقدمة على واقعها , وكحالة تحمل أسباب النهوض للأمم يتجاوزها التاريخ لأنها لا تترك أثرا في مساره , ولذلك لو أمعّنا النظر في الزمن الفاصل بين النهضة الأوروبية في القرون الوسطى والحضارة اليونانية التي تركت أثرا على الرومان , لوجدنا حالة فصل ثقافي ترك أوروبا تعيش ظلاما دامسا حتى عرف رواد النهضة أثر ذلك الفصل الثقافي، فكان الوصل هو المهاد الذي فجر الثورة الفرنسية , فالمعرفة تملك أسباب النهوض للأمم .
وحين احتدم الصراع بين الشرق والغرب – أي بين الرأسمالية والاشتراكية العلمية في القرن العشرين – كانت المعرفة وكان الكتاب هو ميدان الصراع , حتى وضعت الحرب الباردة أوزارها في تسعينيات القرن العشرين, ومنذ تفردت الرأسمالية بحكم العالم خَفَتَ بريق المعرفة وخفت بريق الكتاب, وذهب النظام العالمي الرأسمالي الى وسائل الترفيه خوف أن تترك المعرفة أثرا في بنيته ونظامه العام , ولذلك شهدنا غيابا جزئيا للكتاب في مقابل الحضور المكثف لوسائل الترفيه التي تستهلك الطاقات فيما يخدم عجلة الاقتصاد الرأسمالي , وعلى إثر ذلك تشكل في ظلال النظام العالمي الرأسمالي ما يسمونه باقتصاد المعرفة , وهو اقتصاد يقوم على الاستغلال والغبن للشعوب من حيث نظن النفع العام , فاقتصاد المعرفة يوظف قشور المعرفة ليجني من ورائها الأموال التي تتدفق إلى خزائنه من خلال سيطرته على الشركات الكبرى التي تتحكم في التقنيات الحديثة ولا يمكن للعالم أن يتحرك خارج هيمنتها وسيطرتها.
اليوم نحن في اليمن نخوض حربا وجودية كبرى تكالب الكون وكبريات الدول لشنها علينا وبتآزر عجيب لم يسبق في التاريخ القديم ولا المعاصر , ولذلك فالوعي بالمرحلة التي نخوض صراع وجودنا فيها، يبدأ من خلال احترامنا للكتاب ومن خلال اهتمامنا به , فالعدو الذي يخوض معركته معنا يهتم بكل شاردة وواردة تكتب أو تلوكها أسنان المطابع، في حين نحن نهتم بالكيف كما يفترض.
ومن المهم تنفيذ الأفكار وبيان خطأها أصوب من التضييق والمصادرة , كما أن صواب الرأي لا يعني فساد رأي غيرك ذلك أن الذات تحضر ويغيب الموضوع بنسب في الأفكار والآراء , ومن الحكمة معرفة الآخر ومعرفة أفكاره وطرق تفكيره ليسهل عليك تفنيد ما يقول أو حواره، إذ لا يمكن حوار من تجهله .
فالمهتم بقراءة الكتب يثري عالمه الفكريّ، وسيرى الأمور بوجهات نظر مختلفة، كما سيجد أنّ الكتب الفكريّة أو حتّى الأدبّية تعرض له الكثير من الأفكار المتناقضة التي لن يقرّها بالضرورة، لكنه مع الوقت سيصل إلى مرحلة يتقبل فيها الاختلاف بصدر رحب، وسيرتفع بالضرورة وعيه بالعالم المحيط به، وسيقرّر الجانب الفكري الذي يتبنّاه، فيما قد يُغيّر الكتاب من نظرة الإنسان إلى بعض الأمور بشكل إيجابي.
نحن نؤكد على أهمية الكتاب في تمتين البناء المعرفي , وفي التفاعل مع العالم من حولنا , فالمعرفة هي من أسباب النهوض , والصمود اليماني في وجه أعتى قوة عسكرية تعود للوعي , والوعي والمعرفة من مضامين الكتب وهما من عوامل الصمود ومن أسبابه , ولابد من الاهتمام بالكتب إن أردنا نهوضا وتأثيرا في النظام العالمي الجديد الذي بدأ بالتشكل من خلال حركة التبدل في العلاقات الجيوسياسية والديموغرافية التي تحدث , ومن خلال الثورة التقنية التي تقودها العولمة, وحركة الاقتصاد الجديد الذي يعتمد على المعرفة, وعلى الإنسان كثروة قادرة على صناعة التحولات في المستقبل المنظور.