لا أحد من المتابعين الجديين لمسار الاشتباك الإستراتيجي بين الشرق والغرب بشكل عام، وبالتحديد بين الأميركيين وحلفائهم الغربيين والإقليميين من جهة، وبين روسيا والصين وايران وحلفائهم من جهة أخرى، كان يتصور أنه سيكون هناك قدرة للمعسكر الغربي بقيادة واشنطن على النجاح بتطويق مثلث دول المعسكر الشرقي المذكور، لا اقتصاديًا ولا سياسيًا ولا عسكريًا. وجاءت الاتفاقية الإستراتيجية الأخيرة بين الصين وايران لتؤكد هذه المعادلة (عدم القدرة على التطويق)؛ فقد تبين من بنودها ومن النقاط أو الاتجاهات التي تطرقت اليها وتضمنتها، أن المعسكر الغربي بقيادة الأميركيين، بالإضافة الى فشله في فرض نفوذه أو سيطرته شرقًا، فهو بالواقع، لن يكون بعيدًا عن أن يتعرض هو نفسه للتطويق من ثلاثي فرسان المعسكر الشرقي المذكورين.
في الموضوع السياسي - الإستراتيجي، بمجرد كشف مدى وصلاحية هذه الاتفاقية في الجغرافيا الواسعة من جهة، أو في المستقبل فيما خص مدتها (25 عامًا)، أو في التخصص بنقاط قوة اقتصاد الدولتين، وخاصة في تثبيت مستورد دائم وقوي وصادق لنفط وغاز ايران (الصين)، فهذا وحده كاف لكي ينسى العالم وخاصة الأميركيين، إمكانية تأثير أي عقوبات على ايران، واعتبار أي ضغوطات عليها، مهما كانت أو مهما امتدت، بأنها ستبقى دون أية فعالية.
في الموضوع الاقتصادي، كشفت الاتفاقية المذكورة بين الصين وايران عن الكثير من نقاط القوة، والأرقام المخصصة لتمويل المشاريع الواسعة تؤشر الى ضخامة ما ينتظر العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، كما أن مساحة قطاع عمل وامتداد تلك المشاريع، شرقا وشمال شرق وشمال غرب وجنوبا، انطلاقا من الواجهة الغربية لهذه الجبهة الاقتصادية، أي انطلاقًا من ايران، عبر خطوطها البرية أو عبر مرافئها الحيوية، كافية لتوقّع حجم وضخامة ما يمكن أن تكون عليه تأثيرات هذه المشاريع على صعيد الاقتصاد العالمي لناحية التجارة والصناعة وحركة الأعمال والتبادل.
لناحية الموضوع العسكري أو العسكري - الإستراتيجي، والذي يمكن فصله عن السياسي والاقتصادي، حيث يبقى مرتبطًا بمستوى توتر العلاقات ومدى خطورة الاشتباك بين المعسكرين، يمكن تقسيمه الى قسمين رئيسين:
أولًا: لناحية إمكانية تطور الاشتباك الى حرب، يبقى هذا الاحتمال بعيدًا، فحينها، لن يكون الحديث عن غالب ومغلوب أو منتصر ومهزوم، فأي مواجهة عسكرية بين هؤلاء الأقطاب (الدول الكبرى الثلاث بالإضافة الى ايران) ستكون مدمرة لمروحة واسعة من جغرافية العالم، وطبعًا لأغلب أطراف هذه المواجهة، حيث قدرات الردع النووية أو التدميرية متوفرة لدى هؤلاء الأطراف بالقدر الكافي لإحداث دمار شامل.
ثانيًا: لناحية التسلح وحيازة القدرات النوعية وبسط السيطرة والنفوذ، يمكن هنا استنتاج حساسية موقع ايران الجغرافي وأهمية ما تملك من قدرات وأسلحة نوعية، والتي ستكون نقطة قوية جداً لمصلحة هذا التحالف أو الاتفاق الإستراتيجي مع الصين، وذلك على الشكل التالي:
لناحية القدرة العسكرية:
- برهنت ايران وفي مختلف المواجهات أو الاشتباكات التي حصلت في منطقة الخليج وبحر العرب وخليج عمان، أنها تملك أسلحة الردع المناسبة، والقادرة على تحقيق وفرض التوازن الإستراتيجي، من صورايخ باليستية أو مجنحة، ومن طائرات دون طيار من الأكثر تطورًا في عالم الطائرات المسيرة، بالإضافة لأحدث القدرات البحرية والقادرة على الإمساك بأكثر مناطق المعابر المائية حساسية في العالم.
- بمواجهة الوحدات الأميركية المنتشرة في المنطقة وبمواجهة حلفاء واشنطن، وعلى رأسهم الكيان الإسرائيلي، استطاعت ايران أن تفرض توازن ردع استراتيجيا، أثبتته وحداتها في أكثر من واقعة استطاعت التفوق فيها، من إسقاط أكثر طائرات المراقبة والتجسس والهجوم الأميركية تطورًا، والتقاط بعضها والسيطرة عليها، الى أغلب المواجهات البحرية - البحرية في الخليج ومداخل مضيق هرمز وخليج عمان، بين الوحدات الأميركية ووحدات الحرس الثوري، حيث كان يتم التعامل بندّية مع جميع السفن العسكرية أو الطرادات الأميركية وغير الأميركية، والتي كانت تدخل المياه الإقليمية الإيرانية.
لناحية الموقع الجغرافي:
- يلعب موقع ايران الجغرافي دورًا محوريًا في أي اشتباك استراتيجي أو أي تنافس على النفوذ أو السيطرة بين الدول الكبرى، فإيران تشكل بموقعها على الخليج وعلى مداخل خليج عمان وبحر العرب، نقطة الربط الأكثر تأثيرًا بين البحر المتوسط والبحر الاحمر وباب المندب من جهة، وبين شمال المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي من جهة أخرى، وحيث تشكل هذه المساحات البحرية حاليًا، بقعة الاشتباك الأكثر حماوة في العالم، والتي تتسابق أغلب الدول القادرة على الإمساك بها أو على امتلاك أكثر من نقطة ارتكاز بحرية فيها، تقدم ايران عبر ذلك الموقع، وكشريك أساسي، نقطة القوة الأكثر تأثيرًا في تدعيم موقف وموقع الصين في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية.
- أيضًا، لا تقتصر أهمية موقع ايران الجغرافي على تدعيم عناصر التحالف مع الصين، بل تقدم ايران عبر هذه الجغرافية المتميزة، أكثر من نقطة ارتكاز مناسبة لأي تحالف مشابه مع روسيا، فالأخيرة تحتاج لسند أساسي يدعمها من اتجاه حديقتها الخلفية جنوبًا، باتجاه آسيا الوسطى أو باتجاه جنوب القوقاز، وموقع ايران كشريك أو كحليف لموسكو، قادر على لعب دور فاصل ومؤثر في أية مواجهة تُفرض على روسيا انطلاقا من الجنوب.
من هنا، وأمام هذا الموقع الجغرافي المتميز لإيران، وأمام هذه القدرات الفاعلة التي تمتلكها، يمكن القول إن الأخيرة تشكل نقطة القوة الأكثر تأثيرًا في الاتفاق الإستراتيجي مع الصين أو في أي اتفاق مماثل مع روسيا.