الحديثُ عن الثورةِ في اليمن أصبح حَديثاً ممجوجاً لكَثرةِ القائلين به ولقِلَّةِ أثره في الواقع، فاليمنُ هي من أكثر الأقطار مُيُولاً إلى الثورة لتؤصَّلَ هذه الفكرة في البُنية الثقافية والبنية العقائدية، ولكنها من أقل الأقطار إحداثاً للتحولات والتبدلات، فكل الثورات لم تكن تستهدفُ تغييراً ملحوظاً أَو تبدلاً في المسارات بل كانت تستهدف إبدالِ وجهٍ بآخر وصورة بأُخرى مع بقاء الشكل كإطار دالٍّ على استمرار الماضي في صميم التجارب، وقد كان ذلك هو ديدنُ المراحل، ولذلك ظل الماضي هو العائقَ الوحيدَ أمام المستقبل في كُـلّ المراحل.
فثنائية الثبوت والتحول في حركة المجتمع في اليمن لها وجهان عميقان في البنية الثقافية، وهما ممتدان في التاريخ.
– فالوجهُ الأولُ هو الوجهُ الثبوتيُّ الذي تمثله فكرة الخلافة الوراثية التي قال بفكرتها معاوية بن أبي سفيان وحشد لها النصوصَ التي تؤيد هذه الفكرة، وقد نشط في زمنه الرواةُ الذين كانوا يصنعون المبرّرَ النصيَّ إلى درجة شيوع ما اصطلح على تسميته علماء الحديث بالإسرائيليات، والإسرائيليات هي منظومةٌ نصيةٌ تختصُّ بالحديث النبوي والوقوف أمامها بالتحليل للفكرة وفق منهجية الجدلية التاريخية يفضي بنا مسارها إلى الصراع العشائري ليس أكثر من ذلك، وهذا الوجه عطّل قدرات الأُمَّــة وحدَّ من قدراتها، وشل فاعليتها، لكنه كان الأكثر تأثيراً في حركة المجتمع والسياسة وفي حركة التاريخ.
– والوجه الآخر هو الوجه التحولي، وهذا الوجه تمثله فكرة الثورات التي قادها آل بيت النبي عليهم الصلاة والسلام، وهو يمثل الثورة التحولية التي تتحَرّك في جانب الشعب وبالشعب في مقارعة الظلم، كما يظهر ذلك في جل المراحل والمحطات التاريخية على وجه العموم، أما على وجه الخصوص فالزيدية في اليمن مثلت فكرة الثورة التحولية، والشافعية كانت تمثل فكرة الثبوت، وبينهما تكوَّنَ تاريخنا وهو ممتد في كُـلّ التجارب التي تتجانس في بعض المراحل وتتضاد في أُخرى.
وما يحدث اليوم من صراع يحملُ ذات السمات الثورية التحولية والثبوتية الخلافية، فالماضي يناوِشُ بثبوته والمستقبل يحاول تحقيق وجوده، فالثبوت الذي عليه تيار الإخوان والسلف -كسمة ثقافية لوجه تحالف العدوان- في مقابل فكرة الثورات التحولية التي عليها حركة أنصار الله كامتداد لتيار المقاومة العربية، ويمكن قياسُ ذلك في صورة المشهد السياسي في عمومه في المنطقة العربية.
أقول فالثبوت والتحول تلاقياً من جديد في جانب صراعي دامٍ، فتحَرَّكَ جانبٌ بين آتٍ لا يأتي لقلة وسائل صنعه، وبين ماضٍ لا يرجع لانعدام الحياة فيه، وإن دلت عليه أصوات واصداء، لهذا فالعَمَلان مُجَـرّد حركة هزيلة في فراغ، فالماضي مستحيل الرجوع لكن الغد ممكن الميلاد وهو يستدعي جدة نفوس الداخلين فيه، وقدرة تجديده وتجديد نفوسهم معه حتى لا يصبح ماضياً ممتداً في زمن جديد أَو نفترض جدته، وحيوية كُـلّ عمل تكمن في أفكاره الحياتية التي تتنازعها الفصائل والفرق والكيانات في صور غير متجانسة، فالسمة الغالبة للبناء الثقافي في مشهدنا السياسي اليوم لا تعدو عن كونها نزوعاً دينياً يبزغ من طرفه -بمفهوم عائم- الحس الوطني.
والملاحظ أن غموض المرحلة زاد من غموض الفكرة، غير أن مكوناتها الأولى تصلح أَسَاساً للبناء الجديد؛ لأَنَّها بذرةٌ حيةٌ قابلةٌ للنمو.
وما يمتاز به الفاعلُ السياسيُّ الوطنيُّ الذي يواجه قوى العدوان اليوم بصنعاء، هو التجانُسُ الثقافي مع البناء الثقافي، فهما نتاجُ الشكل الاجتماعي اليمني المقاوم، والذي يأبى الضيمَ في حقب التاريخ المختلفة، والتباين في الرأي الذي نشعر به في صنعاء لا يعدو عن كونه صراعاً بين النزوع الديني والحس الوطني، ومن السهل التقريب بين البعدين بالتوافق السياسي، أَو بالاشتغال على فلسفة فكرة مشروع المرحلة؛ لأَنَّ الفلسفةَ هي الفكرةُ التي يمكنُها تبريرُ المشروع وتمتينُ فكرته في التصور الذهني، وهي في السياق نفسه من تملك أدوات هدمه.
وقد تحدثنا كَثيراً عن التحول من عصر الصناعة إلى عصر المعلومة، بما يُغنِي هنا عن التكرار لذلك، فالثورات التي تنشأ في مراحل التاريخ بصورة نمطية واحدة قد تغيّرت وتبدلت، فالثورة في عصر المعلومات غيرها في عصر الصناعة، وإدراك مثل هذه الحقيقة قد يؤهّل سلطةَ صنعاء لقيادة ثورة انتقال حقيقي، بالاشتغال على فكرة المعلومات وتوظيفها وتشغيلها بدل ذلك الاضطراب والفوضى التي كَانت يصاحبُ الثورات، ولذلك يمكن للسلطة بصنعاء أن تقودَ ثورةَ نهضة شاملة بالاشتغال على الاستراتيجيات، وإحداث ثورة ثقافية تبدُّلية حقيقية، وسلطة صنعاء تدرك ذلك تمامَ الإدراك، فقد دل خطابُ رئيس المجلس السياسي الأعلى أمام مجلس الوزراء على ذلك، كما لاحظ المتابعُ نشاطًا واضحًا له من خلال الزيارات التحفيزية للوزارات، وهو أمرٌ محمودٌ، نمتنى أن يتحولَ إلى أثر ثوري يحدث تبدلاً في حياة الناس.