الفرق بين الثأر والثورة كالفرق بين الثأر والقصاص, في الثأر لا يلتزم صاحبه الاقتصاص من الجاني فأي فرد من العشيرة أو القبيلة أو من يربطه به أدنى صلة هو هدف مشروع للانتقام .فالثأر اجراء انتقامي لا يعالج المشكلة القائمة بقدر ما يحولها لأزمة مفتوحة ومشروع اقتتال دائم وعلميات انتقام لا تنتهي .بينما القصاص اجراء عقابي عقلاني يركز على المستقبل بهدف الإصلاح ومنع تكرار هدر الحياة .
وأحد أهم مأزق ثورة 26من سبتمبر غلبة خطاب الثأر فيها على خطاب الثورة وتغلب الثأريين على الثوريين .وعقيب إعلان الثورة عن أهدافها الستة كان الثوريون والجمهوريون أقلية في معسكر الجمهورية والثأريون والناقمون هم السواد الأعظم وبسرعة دراماتيكية تنقلت من أيدي الثوار لتقع ضحية للثأريين الذين قدر لهم ان يقرروا مصير الثورة والجمهورية والدولة.
الثأرية تخالط معظم التحولات الثورية السياسية والإجتماعية لكن عندما تغلب السياسة والعقلية الثأريتين عليها تتحول الثورة – كما حصل في ثورة 26سبتمبر- من مشروع مدني تحديثي مخطط بهدف إحداث تحول سياسي واجتماعي ينقل اليمن من مجتمع تقليدي الى مجتمع مدني حديث ,الى ثأر مفتوح ودائم لا يكتفي بمحاكمة الأزمة في حاضرها وحدودها الطبيعية بقدر ما يحولها لصراع مفتوح غير قابل للحسم وتوسيع حدودها من اسقاط الإمام والدولة المتوكلية الى شيطنة عامة للتاريخ والمذهب والفكر والاتباع في الماضي وامتداداتهم في المستقبل.
ولان العقلية الثأرية عقلية عمياء فإنها كانت تظللنا عن الأسباب الحقيقية لتأخر الأوضاع في اليمن وتختزلها في سبب وحيد الإمام ونظام الامامة, فيكفي ان يسقط الإمام لتنصلح أحوال اليمن وعلى حد المناضل عبدالله باذيب “تغيير الوضع في مفهوم الأحرار لم يكن أكثر من إزالة الإمام ولم يفكروا في كيفية تغيير الأوضاع “.وهي الخدعة التي وقع فيها عبدالناصر عندما صور له ان اسقاط الإمام كفيل بإنجاح الثورة كما حصل في ثورة يوليو ناسين ان مصر مجتمع دولة ورعايا( اليمن دولة وقبائل), وان حركة التمدين في مصر عمرها قرن ونصف القرن وكتلة مدنية وقاعدة اجتماعية مدنية واسعتين , والقيادة الملهمة للثورة ممثلة في عبدالناصر.. الخ (وهي العوامل ذاتها التي ميزت ربيع مصر عن ربيع اليمن )سقط الإمام ولم تنصلح أحوال اليمن ودخلت اليمن وعبدالناصر في متاهة خرج منها منهكا ,وتبين أنها كانت اندفاعة غير مخططة بلا رؤية وبلا مشروع مدني -كما أشار باذيب – ولا قيادة ملهمة للجماهير ومقنعة ومسيطرة على النخب المدنية والقبلية (السلال مناضل لكن لم يكن زعيما كعبدالناصر والسبب في اختياره لقيادة الثورة انه كان لا بد من اختيار قائد للثورة فاختاروا اعلاهم رتبه ) ولا قاعدة مدنية اجتماعية صلبة ولا كتلة ثورية متجانسة وموحدة فما يجمع القوى المنضوية تحت مظلة الجمهورية هو الخصومة مع الإمام وليس المضامين السياسية والإجتماعية للثورة .ولهذا سرعان ما انزلقت نحو الحرب الأهلية وسقطت سريعا بأيدي القوى الثأرية .تفسر الباحثة السوفييتية ايلينا جولوبوفسكايا مأزق النخبة المدنية التي نفذت الثورة ومعظمها من الطبقة الوسطى التي حصلت على تعليمها في الخارج من المثقفين والعسكريين المدنيين والبرجوازية الوسطى ,في ضعف القاعدة الإجتماعية والكتلة الثورية التي تدعمها وتساندها لذلك وجدت نفسها عاجزة عن وضع برنامجها موضع التنفيذ ووجدت نفسها في النهاية مضطرة للتنازل للقوى التقليدية وجذب الوجاهات الإجتماعية التي تتمتع بالهيبة والنفوذ في مجتمع تقليدي من المشايخ ورجال الدين المتأخونيين ومن تضررت مواقعهم في انقلاب 48 م من العلماء والهاشميين ,واستغلال رغبتهم في الانتقام من الإمام ودولته, ولان خلافهم مع الإمام لم يكن في الأساس على نظام الحكم بل على عوائده وعلى تقليص سلطتهم ونفوذهم على قبائلهم وفي محلاتهم (لم يكن لدى هذه القوى مشكلة في تغيير النظام الجمهوري واختيار نظام لا جمهوري ولا ملكي تحت مسمى الدولة الإسلامية اليمنية على سبيل المثال كان الزبيري ينادي بفكرة الدولة الإسلامية و في 1965م ووقع ما يقارب 79 شخصية اتفاق الطائف لإقامة دولة تحت مسمى الدولة الإسلامية اليمنية) ليس هؤلاء فحسب فالمفكر عبدالله باذيب يأخذ على فريق من الأحرار تصورهم للنضال والكفاح الشعبي على انه عداء شخصي للإمام وخضوعه للأحقاد الشخصية والارتجال وغياب الاستراتيجية المناسبة للنضال وطرح الشعارات السابقة لأوانها ومداهنة الاستعمار… تمكن الثأريون من الاستحواذ على المواقع القيادية العلياء في الدولة ,ووضع مؤسساتها تحت تصرفهم, واستبدال الرعوية الدينية قبل الثورة برعوية دينية قبلية اخوانية وسلفية وهابية اكثر راديكالية وعصبوية ,واستبدال الملكية الإمامية بجمهورية حنبلية ,و دولة الإمام بدولة القبيلة .
حولت العقلية الثأرية ذكري ثورة سبتمبر الى مناسبة للشتيمة كطقس موسمي لكل ما هو هاشمي أو زيدي ,السلالة ,التاريخ والتراث والرموز , وتكريس ذاكرة جمعية عدائية نحو بعض الفئات الاجتماعية , وتبخيس الرأسمال الزيدي وخلق مناخات نفسية وايديولوجية مشحونة بالعواطف الثأرية والعصبوية
خطورة الثأرية كونها لا تنظر لثورة 26سبتمبر مشروعا وطنيا جامعا بل سلاحا يشهره -بعد افراغه من مضامينه الوطنية والانسانية- للثأر من الماضي والحاضر وتشوه علاقتنا بالواقع والتاريخ كما لو ان ماضي الشعوب بيتاً من قصيدة يمكن حذفه أو الاستغناء عنه .
في كتابه الثورة والثقافة الشعبية استنكر البردوني ترديد بعض الكتابات لأسطوانة غريبة تنظر لثورة سبتمبر وكأنها بداية الوجود اليمني وان عمر اليمن هو عمر الثورة لم يكن في اليمن أي مستوى من التعليم ولا أي نصيب من الثقافة.. الى اخر قائمة النفي لحقيقة يمنية اليمن”.
سمعت بالصدقة مقطع صوتي مسجل من خطاب للزبيري اعتقد انه بمناسبة أعياد الثورة قال فيه ان ثورة سبتمبر حررت الشعب اليمني من عبودية العباد الى عبودية الله.. اندهشت لهذه السقطة من شخص يعتبر ايقونة سبتمبر ومحتواها التكفيري الذي يدين عقيدة الشعب اليمني لعشرة قرون وهي وان كانت تقصد الى ادانة تاريخ الإمامة السياسية الا أنها تسيء- بوعي أو بدون وعي- إساءة بالغة للذات اليمنية وللأجيال اليمنية على امتداد عشرة قرون الى ان قيض الله لليمن عبد الناصر واعتقها من عبوديتها.!!
الان وبعد مرور اكثر من نصف قرن على الثورة لم يعد من المقبول استمرار نفس الردح الموسمي والمسلمات المكررة للعقلية الثأرية التي ظلت دهرا ولا زالت تظللنا عن ادراك واقعنا واستكشاف أسباب ازماتنا المتناسلة، وصار بين أيدينا من الوقائع والشواهد ما يكفي لدحض فرضيات السرديات الثأرية التاريخية الاجتماعية والسياسية .
ليس الهدف الطعن في الجمهورية ولا الثورة ولا تبييض صفحة الدولة المتوكلية ولا إعادة اجترار الماضي ولا استحيائه في حاضرنا بقدر ما نريد انهاء الثأرية المفتوحة بإسم الثورة والجمهورية والوحدة واسقاط أهلية العقلية الثأرية للحديث عن التاريخ والسياسة , وسيطرة الثأريين على تقرير مصير الجمهورية والدولة واستخدام الإمامة والزيدية والهاشمية فزاعة وسياجا عازلا لتزييف وعي الجماهير عن حقيقة الاستغلال الذي يمارس عليهم بإسم الجمهورية والثورة وتنويمهم مغناطيسيا بشدهم نحو هذا المصدر الخرافي لكل الشرور والأزمات التي مرت بها ولا زالت تمر بها اليمن من انهيار السد الى هروب هادي. وتغييب الواقع لصالح بقاء واستمرار دولة الفيد العشائرية الحنبلية، وحتى لا يبقى تاريخنا يظلل حاضرنا، وحتى لا تبقى موادا مفتوحة للاحتراب الداخلي.
كون ذلك مقدمة ضرورية للمصالحة مع الذات والتاريخ ولإعادة تصويب مسار الجمهورية والدولة لتكون دولة وجمهورية كل اليمنيين لا دولة وجمهورية مطلع ولا منزل لا شمال ولا جنوب لا شوافع ولا زيود لا قحطانية ولا عدنانية انما دولة جمهورية يمنية يمنية.
وفي سلسلة الحلقات التالية نتناول بعض القضايا التي لازالت مثار جدل كالهاشمية والتمييز الطائفي والعصبوي وأزمة الدولة اليمنية وتأخر اليمن والمسؤول عنهما في الإمامة والجمهورية وغيرها من القضايا التي يتم استدعائها بشكل موسمي والاشتغال عليها بطريقة ثأرية مدمرة .
الإمامة والجمهورية والتمييز العصبوي .. الثأر والثورة في 26 سبتمبر "2"