|
مسؤولية الدولة والمجتمع في تيسير الزواج 3
بقلم/ د.حمود عبدالله الأهنومي
نشر منذ: سنتين و 11 شهراً و 22 يوماً الخميس 02 ديسمبر-كانون الأول 2021 05:54 م
إن مسؤولية الدولة مسؤولية أساسية في تيسير الزواج، ويدخل تحت عنوان (أنكحوا) إجراءات وتفريعات وتفصيلات وتحركات كثيرة جدا، منها:
1 -التوعية والتثقيف بالسلوك الشرعي الصحيح، وأن اليسر في الزواج مطلب شرعي ديني إسلامي قرآني، لا يجوز التخلي عنه، ويمكن للدولة أن تحرك كثيرا من الجهات والمؤسسات والكوادر والشخصيات، وأن تفعِّل كثيرا المنصات التثقيفية والإعلامية والتوعوية والإرشادية، وأن تقوم بمخاطبة الجمهور الأعم من الناس، والوصول إليهم عبر وسائلها وإمكاناتها الكثيرة. ويكون التثقيف بكون التيسير أمرا مأخوذا به على كل مسلم ومسلمة، وأنه ما سلك أحد طريق الإشقاق إلا شق الله عليه، وأن مخالفة هدى الله في هذا الجانب إنما تورِّث الخسار والشقاق والضلال والشقاء، ويمكن أن تنزل هذه التوعية عبر مواد مرئية ومسموعة ومقروءة ترغّب الناس في التيسير، وتعلي من هذه القيمة العظيمة، وتعتبرها خلقا راقيا، وسلوكا قرآنيا حضاريا راشدا. وفي نفس الوقت تنص على الإجراءات والعادات والتقاليد والالتزامات الشاقة والمعسرة باعتبارها قيما سلبية مناقضة للقيم القرآنية، والأخلاق الإلهية.
2 -تفكيك عادات التعسير والإشقاق عمليا بإصدار التقنينات الواقعية التي ترتبط بهذا العنوان، وتراعي التيسير في شكل مصفوفاتٍ قانونية، ولوائحَ تنفيذية، تمنع الوقوعَ في طامَّة التعسير والإشقاق والتثقيل، وترتبط هذه التقنينات بدعم وتشجيع الملتزمين ببعض الحوافز المادية والمعنوية، وحرمان المخالفين لها من تلك الحوافز.
3 -رعاية وتشجيع الاتفاقيات والمبادرات المجتمعية التي تحدد الاحتياجات المناسبة للزواج واحتياجاته الضرورية والممكنة والمعقولة، وتخفيف المهور، وتلغي كل الإجراءات والعادات والفعاليات التي تصنع العوائق والتعسير في طريق الزواج، ومراقبة ذلك في الواقع العملي بطرق عملية ذات جدوائية. ثم إلزام المجتمع بهذه الاتفاقيات والمبادرات التي ألزم بها نفسه، على أن لا يتم توثيق عقد إلا بالالتزام به، وحبس المخالفين إياه.
4 -على أن من حق الدولة أن تنظر في الصالح العام، وأن تبادر هي إلى وضع أطر وحدود مناسبة تضمن التخفيف في المهور وإلغاء العادات والأعراف التي تعرقل عملية الزواج، وتفرض ذلك ولو بقوة الدولة على المواطنين، ما دام ذلك يضمن تحقق المصلحة العامة، ودرأ المفاسد الكبيرة والكثيرة.
يقول السيد القائد رضوان الله عليه: «من المهم جداً السعي لتيسير أمور الزواج، …، بدءاً من تحديد مستوى المهر والتكاليف الأخرى بسقفٍ معقول وممكن وميسّر، وإضافةً إلى حلِّ الكثير من التعقيدات التي دخلت في إطار عادات جديدة، أو كذلك شروط ومتطلبات إضافية لا ضرورة لها، ولا تراعي الظروف الصعبة للناس».
5 -دعم وإنشاء المؤسسات والمبادرات الشعبية والمجتمعية والخيرية التي تخصَّص لدعم الزواج ماديا ومعنويا، وهذا ما يحدث في بعض بلدان العالم، حيث تقوم بعض المؤسسات بدعم الزوج، وإعانته ماليا في الاستعدادات والتجهيزات والاحتياجات المطلوبة من خلال وضع مصفوفات ومعايير محددة لمن يستحقون الدعم والمساندة.
6 -تنفذ المؤسسات التابعة للدولة عملية الإعانة والتنظيم والتيسير للزواج مباشرة، وهذا ما تعمله الهيئة العامة للزكاة بين الفينة والأخرى، ويمكن للهيئة العامة للأوقاف أن تنفذ نفس الخطوات بالتنسيق بين الهيئتين؛ حيث في علمنا أن هناك أوقافا تحمل الصبغة الاجتماعية الإنسانية الراقية، منها في دعم الزواج، ومنها في حل المشاكل التي قد تنشب بين الزوجين، مثل وقف (جبر الخاطر)، وهناك حالات دعم زواج العلماء والمتعلمين، مثلا من أوقاف العلماء والمتعلمين، ويمكن أن تنظم هذه الحالات في جو عملي إنتاجي مرافق.
7-اقترح السيد القائد – عليه السلام – على جميع المؤسسات أن تهتم بتزويج منتسبيها، فقال: «الجهات التي هي جهات مؤسَّسية تهتم بالمنتسبين إليها بقدر ما تستطيع، وتصبح هذه عادة يهتم بها الجميع؛ لأنها من فعل الخير المهم والمفيد والنافع، التعاون مع المحتاجين للزواج، إن الله يقول: (وَأَنكِحُوا الأَيامى مِنكُم) [النور: 32]».
8 -يشكل النظام التعليمي القائم في بلدان العالم اليوم عائقا أمام الزواج الطبيعي، حيث لا يكمل الطالب في الحالة الاعتيادية الثانوية العامة إلا وعمره يزدلف نحو العشرين، ولا يكمل الجامعة إلا وعمره في نحو الأربع والعشرين، ثم إذا أراد الماجستير والدكتوراه فسيتأخر ما لا يقل عن سبعة أعوام، ولهذا أقترح إعادة النظر في هذا النظام التعليمي، بحيث يمكن فيه تقليص عدد السنوات في المرحلتين الأساسية والثانوية، والاقتصار على المواد الضرورية، وحذف الموضوعات الترفية، بحيث يمكن للطالب أن يتخرج في سن العشرين عاما من الجامعة، وهذا عمر مناسب للزواج لكلا الجنسين.
9 -وهناك أشياء أخرى تدخل تحت عنوان (وأنكحوا)؛ حيث كل إعاقة يحدثها المجتمع أو الفرد أو الدولة تشكل بذاتها إعاقة لهذا التوجيه الإلهي في الواقع العملي، وكل عمل أو إجراء يسهل وييسر من عملية الزواج فهو داخل تحت الالتزام بهذا التوجيه الإلهي.
مسؤولية الفرد والمجتمع في تيسير الزواج:
يجب أن يستشعر كل فرد في المجتمع أنه معني بهذا التوجيه الإلهي (وأنكحوا)، وأن قيامه بأي إعاقة غير شرعية لهذا الأمر تشكِّل تمرُّدًا على هذا التوجيه الإلهي، وربما يعتبر رفضا بكل ما يحمله الرفض من معنى قد يصل إلى حد الكفر. ويمكن للفرد – سواء كان وليا للمرأة أم غير ولي – من خلال شخصه أو أسرته أو حتى مجتمعه أو بالتعاون مع الدولة أن يتحرّك في عدد من الإجراءات الميسِّرة للزواج، ومنها:
1 -التيسير في الاختيار: حيث يطرح بعض الشباب وبعض الشابات لأنفسهم شروطا خيالية وغير واقعية في اختيار شريك حياتهم؛ الأمر الذي يجعل من الحصول على هذه الزوجة أو الزوج شيئا صعبا ونادراً وربما مستحيلاً، ولا نعني الشروط الشرعية التي اعتبرها الشارع أو ترنو إليها الفطرة، كالدين والخلق والجمال، بل يبالغ بعضهم في وضع شروط ومواصفات إضافية معسِّرة، فمثلا قد يتشرط أحدنا في الدين، أن تكون زوجته على نحوٍ من التدين ربما لم يعد يحصل في واقعنا إلا بشكل نادر، أو يشترط أحدهم في الجمال صفات قد لا تتوفر في هذا البلد، وبعضهم قد يشترط بعضا من الشروط التافهة مثل نوع قصة الشعر، أو نوع موبايله، أو نوع الفريق الكروي الذي يشجعه كما في بعض البلدان الأخرى.
2 – التيسير في ترك العادات والاحتفالات الكثيرة واختصارها أو حذفها تماما، فكل ما أعاق وعسّر منها الزواج فهو من العادات الذميمة التي تحوّلت إلى فرائض في حياة الناس من غير أن يكون لها مستند شرعي، فحفلة للخطبة، وحفلة للشبكة، وثالثة لعقد القران، ورابعة للحناء، وخامسة للزفاف، وقد تدوم أسبوعا أو أكثر، وسادسة ليوم الثلاث، وسابعة للسابع، وما يرافق ذلك من مستلزمات واستئجار صالات للرجال والنساء، وغير ذلك، ثم حق الشبكة، وحق المهر، وحق الطريق، وحق الفتوش، وحق القعادة، وحق العمة، وحق الخال، وحق الشيخ، وكلها تكلّف أموالًا باهظة، ويشق على الناس، ويحد من إقبال الشباب على الزواج ، وفي ذلك ما يجرُّ الشؤم على مثل هذه الأسر التي تؤسِّسَ حياتها على معصية الله ورسوله، وارتكاب ما نهى عنه الإسلام.
3 -التيسير بتزويج الفقراء: وهذه مسألة عالجها القرآن في الآية الكريمة والمباركة التي مرت علينا، والحقيقة أن ترك التزويج لأجل الفقر يعد ضعف ثقة بالله تعالى، الذي وعد بأن يغني الله الفقير، وكذلك ترك التزويج من أجل أي معايير ومواصفات وضعها الناس لأنفسهم ولم ينزل الله بها من سلطان، ومنها البيت، والشقة، والمرتبة الاجتماعية، والوظيفة الحكومية، والشهادة الدراسية، فهي معايير تخالف ما أمر الله به، ويجب على المجتمع وأولياء الفتيات تجاوزها، وقد ذكر الله أنواع المحرمات من النساء ثم قال بعدها: (وأحل لكم ما وراء ذلكم)، وقال: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء).
يقول السيد القائد عليه السلام: «والعجيب العجيب أن البعض من الناس الذين يقدمون شروطاً طويلة عريضة، وفيها: ما هو مستقبلك؟ ما هي وظيفتك؟ ماهي ثروتك؟ .. هم بأنفسهم ممَّن تزوَّجوا وهم في وضع طبيعي، إما فقراء، أو هم كما يقال: لم يؤمِّنوا بعد المستقبل، لا كانوا في وظائف، ولا كانت بأيديهم تجارة، وكانوا يسعون في هذه الحياة سعيهم، ويسّر الله أمرهم، ثم عندما أصبح لديهم بنت فإذا به يتشرط، ويقول: إيش عملك؟ إيش وظيفتك؟ كم دخلك؟ إيش مستوى ما تملك؟.
مع أن البعض مثلا ممن لا يركزون إلا على هذا الجانب، فقد يزوج ابنته من ثري يمتلك المال، لكن لا يمتلك الأخلاق، لا يمتلك المحبة والحنان والعطف، لا يمتلك القيم، فيظلم ابنته تلك، البعض أيضا يجعلون من بناتهم وسيلة لجمع الثروة، وهذه جريمة فظيعة جدا، وعمل غير إنساني ولا أخلاقي ولا شرعي، يعني يريد في ابنته مبلغاً طائلاً لهُ هوَ حتى يستفيد منها وهو ينتظر من يأتي ليدفع هذا المبلغ الطائل من المال ليعطيه ابنته، هذا بيع وشراء لم يعد تزويجا، لم يعد تزويجا، بل بيع وشراء، وهذه جريمة، الأب الذي هو على هذا النحو فقد معنى الأبوة، فقد حنان الأبوة، فقد المشاعر الأبوية الصادقة تجاه ابنته، يرى فيها مثل بقية ممتلكاته قطعة معينة يبيعها لمن يدفع له أكثر، هذه مسألة سيئة للغاية، سيئة جداً، ولكم نتج عنها من مظالم كبيرة جدا مظالم رهيبة جدا».
4 -التيسير في المهور: إن المهر لا يعني قيمة المرأة ولا ثمنها؛ لأن الزواج ليس بيعاً ولا شراءً، فها هي الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء لا تقوم لها الدنيا بكل ما فيها من جواهر ولآلئ وأموال ثمنا لو كانت النساء تقوّم بالأثمان، ومع ذلك فمهرها لم يتجاوز خمس مائة درهم، قال الإمام علي عليه السلام: (أنكحني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة على اثنتي عشرة أوقية ونصف من الفضة).
إن قلة المهر أدب من آداب الإسلام، وها هي فاطمة عليها السلام وهي سيدة النساء، ومثلُها جميعُ زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان مهرُهن ذلك المهرَ الذي لم يتجاوزْ الـ(500) درهم، أي بما يساوي 20 ألف ريال يمني تقريبا، يوم كان القرش الفرانسي بـ500 ريال يمني.
ولا يعني قلة المهر بأي حالٍ من الأحوال بخسَ المرأةِ لحظها، كما ليس في المغالاة في المهور أيُّ تكريم لها؛ وصدق الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (ت411هـ) إذ يقول: «وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوّج ابنته فاطمة على صداقِ خمسِ مئةِ درهم، وهي سيدة النساء، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليبخَسها حظها». |
|
|