تترُكُ بعضُ القصص جروحاً لا يمكن أن تندملَ بسهولة، وبعض المآسي يمكن أن تكتب بلغة الدمع ويمكن أَيْـضاً أن تكتب بلغة الدم، ومع ذلك ليس هناك أسوأ من أن يرتكب العدوّ جريمة بكل قبح وتوحش، ثم تدخل في عتمة النسيان.
في الثالث من يوليو سنة 2019، كان يوماً مليئاً بالبؤس والحزن والنواح، وابتلاء لأسرة لم تنخرط أبداً في صف المعتدين، وفضلت أن ترفع رأسها عالياً، لتقول لا للعدوان ولا للمرتزِقة.. إنها أسرة بيت الأمير في منطقة المنين جنوب مدينة مأرب، والتي شاءت الأقدار أن تعصف بهم، ويتحولون إلى نازحين ومشردين، ومعتقلين يخضعون إلى أشد أنواع التعذيب في السجون المظلمة بمأرب.
تبدأ تفاصيل الحكاية بمحاولة سلطة الارتزاق بمأرب وعلى رأسها سلطان العرادة، بالضغط على بيت الأمير، لتحديد موقفهم من العدوان، والانضمام إلى صفوفهم، كما فعلت بقية القرى والقبل، لكنهم رفضوا ذلك بشدة، مؤمنين أن الوطن الكبير لا يمكن التفريط بترابه بسهولة، وأن التكالب عليه عار سيلاحق صاحبه أبد الدهر، ونتيجة لهذا الموقف فقد دفعوا الثمن غالياً.
تقع منطقة المنين أَو ما يطلق عليها بالأشراف في جنوب مدينة مأرب، تحت سيطرة مليشيا حزب “الإصلاح”، وهي من القبائل التي لها ثقل وحجم كبير بالمحافظة، لكن قانون الغاب للإصلاح فيها لا يسمح بأية معارضة أَو إبداء موقف مغاير للعدوان، وكلّ من سلك هذا الطريق، فَـإنَّه سيدون في خانة “التمرد” وعليه أن يتحمل النتائج، وهذا بالفعل ما حدث لآل الأمير، حَيثُ بدأت المضايقاتُ عليهم من كُـلّ جانب، وكانت منازلهم من ضمن قائمة بنك الأهداف لطيران العدوان الأمريكي السعوديّ، حَيثُ قتلت وأصابت عدداً منهم، وتم انتشال أجساد النساء والأطفال من بين الأنقاض حالهم كحال المدنيين الأبرياء الذين سفكت دماءهم في كُـلّ ربوع اليمن.
بدأ الخناقُ يضيقُ شيئاً فشيئاً على هؤلاء الأبطال الأحرار، فكانت نقاط التفتيش تفرض عليهم قيوداً صارمة، وتلجأ إلى تفتيشهم بكل دقة، وتمارس بحقهم كُـلّ أساليب المضايقة والتعنت، دون أن يرق لهم جفن أَو ضمير، ثم فكر الأعداء بحيلة أُخرى لعل وعسى تتراجع القبيلة عن موقفها، فأرسلوا الوفود للتفاوض معهم، وكان على رأس هذه المطالب بأن ينخرطوا في صفوف المرتزِقة وأن يكونوا عوناً للمعتدي على أبناء الوطن، لكن ذلك كان صعباً على أحرار آل الأمير، وعلى الرغم من جراحهم الغائرة والمضايقات التي فرضت عليهم، والواقع المظلم الذي يعيشون فيه، والحصار المطبق عليهم من كُـلّ جانب إلا أن قراراهم النهائي الذي لم يتنازلوا عنه هو الرفض بالانضمام إلى طابور العمالة والذلة والخيانة، والاستمرار في موقفهم الحر مهما كلف ذلك من ثمن أَو تضحيات.
كان أحرار بيت الأمير يدركون جيِّدًا أن عواقب الانضمام إلى صفوف الخيانة سيكون مكلفاً، وأنهم سيواجهون الكثير من المتاعب، ولن يسلموا من الأذى على الإطلاق، لكنه كان خيارهم الوحيد الذي لا مفر منه، وقد أجمع عليه الكبار والصغار، النساء والرجال، ومن بعدها خيم الشر عليهم من كُـلّ جانب، وبدأوا مرحلة جديدة تتطلب منهم الصبر والثبات واللجوء إلى الله، ليكون لهم عوناً وسنداً.
الزحفُ الآثم
نفد صبرُ سلطات مأرب، فأعطى المرتزِق سلطان العرادة التوجيهات باقتحام منازل الأشراف في مأرب؛ باعتبَارهم “متمردين” عن السلطة، فبدأ الزحف على منطقة “المنين” في الثالث من يوليو 2019، بعدد كبير من المسلحين، تتقدمهم الدبابات والأسلحة الثقيلة، وبرفقة هؤلاء مسلحين من تنظيمي “داعش” و”القاعدة” الإجراميين، حَيثُ كانوا في نشوة وفرحة كبيرة، جعلتهم يتباهون بهذا الاقتحام وكأنهم يحرّرون الأقصى، لكن الأبطال من أسرة آل الأمير وعلى الرغم من قلة عتادهم وعدتهم كانوا لهم بالمرصاد، وأصروا على المقاومة والتصدي للمعتدين بكل ما يمتلكون من أسلحة، فاستمر القتال لأكثر من خمسة أَيَّـام، حتى نفد كُـلّ ما لدى المقاتلين من ذخيرة، ولم يعد أمامهم من مخرج سوى التسليم بالأمر الواقع، وخَاصَّة وأن الحصار كان قد أطبق عليهم من كُـلّ جانب، وقد تزامن بقصف هستري بمختلف الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، فاستشهد
خيرة شباب أهل القرية وأُصيب آخرون، وأخذ من بقي للأسر، فكانت هذه المأساة قدراً لبيت الأمير، وكربلاء جديدة، جعلت أحدهم يؤكّـد أنها سلبت منهم الكثير والكثير وجعلت منهم أجساداً بلا أرواح.
قرّر المعتدون الانتقام من أسرة آل الأمير، فأقدموا على إحراق منازلهم، وصادروا بعضها، ونهبوا كُـلّ محتوياتها، وتم تهجير النساء والأطفال، في غربة موحشة كتلك التي حدثت للفلسطينيين في 48، حين احتل قراهم اليهود الصهاينة بكل توحش ودناءة، ليكتب لهؤلاء الأبطال حياة أُخرى مع النزوح والتشرد، والعيش بذكريات الألم والأسى، في حين لا يزال الأسرى يواجهون قسوة الجلادين، ووحشة المعتقل، والعذاب المهين، ويخضعون للمحاكمة الظالمة، والتي قد تودي بهم إلى حبل المشنقة كما يرغب الأعداء المتوحشين.
وأمام هذا الواقع التراجيدي فضل الكثير من النازحين من قرية “المنين” بعد تهجيرهم قسراً، وإخراجهم عنوة من منازلهم التوجّـه صوب صنعاء، والعيش فيها، محتفظين في قلوبهم، بألم ما أصابهم، ومنتظرين ما ستسفر عنه قادم الأيّام، وكلهم أمل بالله بأن الأعداء لن يمروا، وأن الله يمهل ولا يهمل.
صرخة تضامن
وعلى الرغم من مرور 3 سنوات على هذه الجريمة، إلا أنها لم تحظ بالتغطية الواسعة من قبل وسائل الإعلام، وهذا ما استشعره ناشطون الشهر الماضي، حَيثُ أطلقوا حملة إلكترونية للتذكير بمأساة “المنين” وجريمة الاجتياح الوحشي لمليشيا الإخوان بحق الأشراف وآل الأمير بمأرب.
ولاقت الحملة رواجاً كَبيراً لدى الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين الذين عبروا عن حزنهم العميق تجاه ما حَـلّ لهذه الأسرة الكريمة من تنكيل وتوحش من قبل الدواعش ومليشيا “الإصلاح”، مؤكّـدين أن ما ارتكبته عصابات الإجرام ومن يقف خلفها بحق آل الأمير من قتل للرجال والأطفال والأسرى واعتقال أكثر من 33 شاباً وطفلاً وشيخاً، وإحراق منازلهم ومزارعهم وتدمير ونهب ممتلكاتهم، جرائم إبادة جماعية يجب ألا تتغافل عنها المنظمات الحقوقية والإنسانية أَو تتجاهلها.
ودعا الناشطون للإفراج عن المعتقلين لدى سلطة مرتزِقة العدوان منذ نحو ثلاث سنوات، محملين قيادات حزب “الإصلاح” بالمحافظة وسلطة العرادة المسؤولية الكاملة عن حياتهم ووضعهم الصحي والنفسي، ومؤكّـدين أن يد العدالة ستطال جميع من شارك أَو تورط في الجريمة.
ستظلُّ مأساةُ بيت الأمير بمأرب واحدةً من أبرز المجازر المتوحشة لمرتزِقة العدوان ومليشيا “الإصلاح”، وهي جريمة لن تسقط بالتقادم، وسيأتي اليوم الذي يدفع فيه المجرمون ثمن ما ارتكبوه من خسة ودناءة، وما ذلك على الله ببعيد.
صحيفة المسيرة