كثير من الثورات في العالم إما ماتت بعد الإعلان عن قيامها بمدة قصيرة أو طويلة أو أنها تحتضر بفعل تصرفات قادتها أو المحسوبين عليها ، وبعضها ولدت ميتة ، ومعيار حياة أي ثورة أو موتها يقاس بعمومية أهدافها المعلنة وحيوية الثوار الذين وضعوا رؤوسهم على أكفهم للاضطلاع بمهامها وإيقاد شعلتها في لحظاتها الأولى وخططوا للحفاظ على بقائها مشتعلة سواءً كانت ثورة سلمية أو مسلحة ، وإذا كانت بداية الثورة غير سلمية فينبغي أن يكون هدفها العام إنسانيا وبرنامج عملها قائما على تحقيق السلام الاجتماعي لا يجب أن يكون العنف منهجاً لأن خيار استخدام القوة سواءً في تحقيق العدالة السياسية المجتمعية أو العدالة القضائية ينبغي أن يكون خياراً استثنائياً يلجأ إليه عند الضرورة فهو وسيلة للوصول إلى تحقيق أهداف الثورة كهدف مجتمعي عام أو لإحقاق الحق في العدالة القضائية وليس غاية في ذاته.
إن تحقيق السلام الاجتماعي القائم على العدل بمفهومه العام والشامل هو الضمانة الأساس لنجاح أي ثورة واستمرارها وديمومتها، ومن الواضح أن شعوبنا لم تستفد من تجارب الثورات المتعاقبة التي قامت باستخدام العنف ولهذا مات أغلبها بموت الثوار الحقيقيين ليصعد لقيادتها المتسلقون باسم الثورة والثوار ويصبح الحال كما قال فقيدنا البردوني وأكرر الاستشهاد به :
(الأباة الذين بالأمس ثاروا * أيقظوا حولنا الذئاب وناموا)؛
ديمومة حياة أي ثورة إذا تستمد شعلتها الوقادة من وعي الثوار الحقيقيين إن وجدوا أولا ومن إدراكهم لكيفية الحفاظ على حيوية الثورة وإشراك الشعب في العمل على تحقيق هذه الغاية التي تعد هدف كل الأهداف بدون دماء ولا معاناة، أي برفض النظرية التي تعاني من ويلاتها شعوب كثيرة: (الغاية تبرر الوسيلة) بما جلبته للبشرية من المآسي والكوارث ولا تزال، وعدم الاعتماد على المقولات الخاطئة التي تغذي السلوك العشوائي وتبرر لهمجية بعض المحسوبين على الثورات وهم كثر مثل مقولة :(لكل ثورة أخطاؤها).
العمل بهذه المقولة على إطلاقها يبقي الباب مفتوحاً لغطرسة المتغطرسين وتحكم المتحكمين غير الأوفياء للمبادئ الذين يعتبرون الثورة مجرد حدث قائم على البطش وعدم التفريق بين الثورة والفتنة ممن يسمون أنفسهم ثوارا أو مجاهدين وهم سبب رئيس من أسباب معاناة الناس وضياع الثورة التي يفترض أنها قامت للقضاء على الظلم والاستبداد والفساد وبناء دولة السلام والعدالة والحرية والحكم الرشيد التي نحلم بها لا التي ندعي أنها من أمجادنا التليدة.
أي ثورة لا أثر لها في حياة الإنسان إنما هي فتنة ومن يدعي أنه ثائر وبيده سلطة ولا يعمل بصدق على إنهاء معاناة الناس فليس سوى منتحل صفة الثائر مستهتر بأحلام الناس وأمانيهم بحياة أفضل ، الثورة طريق استثنائي للتغيير ومن طبيعة التغيير الاستثنائي أن يكون سريعاً وواضح المعالم ولا يقوم على الكذب أو التضليل ، ومحاولات تبرير الأخطاء بالقول : أن الإصلاح بحاجة إلى وقت مع استمرار من يفسد ويمارس الأخطاء في السلطة سلوكا مستهجنا وغريبا ، نعم كل مهمة بحاجة إلى وقت لإنجازها لكن بشرط أن يلمس الناس وأنت تُدير الشأن العام المتعلق بحياتهم أنك ماض في إنجاز المهام بجد وإخلاص وتفان ، والنتائج على الواقع هي المعيار للحكم ومن المؤكد أن (المقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة )
ومما أثبتته التجارب الإنسانية أن الثورة القابلة لديمومة الحياة إنما هي الثورة العلمية في أي مجال أو التي تدعم العلم والمعرفة وتحترمهما وليست ثورة العنف والانفعال وادعاء امتلاك الحقيقة والقدرة على فرضها على الناس بالقوة، ومن يفعل ذلك إنما هو قاتل ومعذب باسم الثورة، ومنتهك للحريات باسم التحرر، ومزور للديمقراطية باسم الديمقراطية، في ضمير الإنسان تتكون الثورة ومنه تشرق.
لابد من الاستفادة من تجارب دورات العنف ومآسي الصراع على السلطة باسم الدين أو باسم الثورة ، لابد أن ندرك أن قيمة الثورة ورسالة الدين هي ما تحققه كل منهما للإنسان وفيه ، لابد أن نخرج بحصيلة من كل الجرائم التي توارثنا نتائجها الرهيبة ، وأن نحاسب أنفسنا على ما نفعله بأنفسنا وكيف سمحنا لقلة من عتاة المجرمين بتحويلنا إلى قطيع يسير خلف خرافاتهم البلهاء ، لابد أن نقول لهم وبالفم المليان كفى صراخاً ولأنفسنا كفى صمتاً ، نحن وإياكم نعيش على أرضٍ يمكننا أن نعمرها بالحب أو نحولها إلى جحيم بمزيد من البغضاء والنزاع على أوهام الحق المطلق في الحكم.
أيها الأعزاء إما أن نكون جميعاً أحرارا أو كلنا عبيد الجهل والخيار بأيدينا، والمؤكد أن خيار الحرية والسلام هو أفضل الخيارات وأجملها وأقلها كلفة والبداية تكون بالبحث الجاد عن إيقاف حقيقي لدوامة العنف ونزع ما في النفوس من أحقاد والسلام.
علمتني الحياة أن اليأس موت
والتمسك بديمومة الحب مفتاح الحياة
علمتني الحياة أن من مات على منهج الحب فقد فاز بالخلود.