اليمن اليوم بات يمثل حارس البوابة الجنوبية لمنطقتنا العربية والإسلامية، ويشكّل نموذجاً يحتذى به.
,,
لطالما قرأنا في صفوف الدراسة الأولى كثيراً عن أهداف الثورة، ومن بينها “بناء جيش وطني قوي”، لكن ذلك كان حبراً على ورق، وكلاماً نظرياً لا أساس له على أرض الواقع. أما اليوم، فإننا نرى جيشاً قوياً عياناً بياناً، سواء من خلال التجربة التي قدمها الجيش اليمني خلال 8 سنوات من الحرب، أو من خلال العروض العسكرية المهيبة، وآخرها عرض العيد الثامن لثورة الحادي والعشرين من أيلول/سبتمبر.
جاء عرض العيد الثامن لثورة سبتمبر تتويجاً لعروض سابقة عسكرية وأمنية، لكن هذا العرض تميّز، إلى جانب قوة الحضور ومشاركة أكثر من 30 ألفاً ما بين جندي صف وضابط، بكشف القوات المسلحة اليمنية عن قرابة 25 نوعاً من الصواريخ الاستراتيجية والمنظومات والتقنيات العسكرية المتطورة، بما يوحي بقدرتها على إدخال عناصر جديدة في أي مواجهة مقبلة.
كثير من المراقبين، ومن بينهم خبراء عسكريون، وصفوا عرض العيد الثامن بـ”عرض الانتصار”، وتوقفوا بالتحليل عند كل تفاصيل من تفاصيل العرض، سواء على مستوى التشكيلات العسكرية، أو الترتيب والتنظيم والدقة، أو الأسلحة الاستراتيجية التي صنع معظمها في اليمن، والتي أوصلت رسالة واضحة في هذا الشأن بأنّ يمن الثورة لا يشبه يمن ما قبل الثورة، وأن الارتهان والوصاية باتا أمراً مستحيلاً ودرساً من الماضي.
إنَّ عرض العيد الثامن لثورة سبتمبر شكل مفاجأة للصديق وصدمة كبرى للعدو، بما حمله من دلالات ورسائل، وما كشف خلاله من قدرات استراتيجية نوعية بحرية وبرية وجوية، في صورة تشبه المعجزة لجيش وقوة تشكلتا في ظل الحرب الكونية والحصار الشامل. وهنا، يمكن تلخيص أبرز رسائل العرض على النحو الآتي:
• إعادة التذكير بثورة الحادي والعشرين من سبتمبر ومكتسباتها، وبما تعنيه الثورة من زخم شعبي وصلابة سياسية واقتدار عسكري، بخلاف ما أرادته قوى العدوان الإقليمية والدولية.
• حضور الدولة الوطنية اليمنية بكلّ مقدراتها وعناصر قوتها يؤكّد أنَّ أولويتها مواجهة العدوان والتصدّي له خارج حدود اليمن، وهذا ما ألمح إليه قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، إن استمر العدوان.
• العرض العسكري وما كشف فيه من قدرات استراتيجية سينعكس حتماً على الملفات السياسية، وعلى معادلات بناء السلام، وفقاً للقاعدة الأميركية: “إذا أردت السلام، فاحمل السلاح”.
• العرض مثّل خلاصة جهود 8 سنوات من الصبر الاستراتيجي والمواجهة ومراكمة القدرات النوعية، وصولاً إلى هذا المستوى المتقدم على صعيد البناء العسكري.
• يعكس العرض تطوراً ملحوظاً للوحدات العلمية وإبداع العقول والأدمغة اليمنية في إنتاج أسلحة استراتيجية تعجز دول البترودولار المرتهنة للخارج عن إنتاجها.
• الحرب والحصار زادا من قوة اليمن، ونقلاه إلى مصاف الدول المصنعة عسكرياً، وحولاه من قوة محلية إلى قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب.
• الكشف عن أجيال جديدة من الأسلحة البحرية والجوية يعني أن القوات اليمنية قادرة على إدخال عناصر جديدة في أي مواجهة مقبلة، وتحديداً في البحر الأحمر وباب المندب.
• قدرة اليمن على الدخول على خط حرب الطاقة لفرض معادلاته وخياراته السياسية والعسكرية، وتحسين حجم اليمن في الميزان الإقليمي، وربما الدولي.
المسألة الأساس في الوصول إلى هذا المستوى من القدرة والقوة هو الإرادة والإدارة، ونعني بالإدارة هنا السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي الَّذي قاد الثورة والجبهة الوطنية في التصدي للعدوان، واستطاع بحكمته وحكمة مستشاريه ومعاونيه توظيف الممكن، رغم الحصار والعدوان، للوصول إلى ما كان في الماضي أشبه بالمستحيل، ما يعني أننا فعلياً أمام تحوُّل استراتيجي وتاريخي لم يعد خافياً عن أيّ مراقب، صديقاً كان أو عدواً، بل بات أي مواطن يمني بسيط يدرك ذلك، ويفخر بمؤسسة عسكرية قوية خلقت وتشكّلت من رحم التحديات، وعركتها الحروب والتجارب، وصاغتها الحاجة، وزادت من قوتها العقيدة القتالية الصلبة والقيادة الحكيمة في مواجهة أعتى دول الإقليم والعالم وأقواها تسليحاً وأغناها مالاً، وأثبتت قدرتها عملياً في حماية البلاد والدفاع عن السيادة، وتبوأت مكاناً في الميزان الإقليمي والدولي، وصار العدو يحسب لها ألف حساب، بخلاف ما كانت عليه المؤسسة العسكرية في السابق، إذ كانت تعاني شللاً في الإرادة وأزمة في الإدارة، لكون القيادة والإدارة حينها كانت مرتهنة للخارج مسلوبة القرار، فيما كانت مؤسسة الجيش نفسها تعيش إشكالية تعدد الولاءات، وكانت مهمتها تنحصر في أمرين:
– الاستعراض البروتوكولي أثناء الأعياد والمناسبات الوطنية.
– مواجهة الخصوم السياسيين للنظام الحاكم، لتثبيت الحاكم على كرسي السلطة المرتهنة للخارج.
هذا ما اعترف به صراحة الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح في مقابلة تلفزيونية، حين قال بصريح العبارة: “إن الآليات العسكرية أصبحت للعروض واستعراض العضلات في الميادين وقمع حريات الشعوب. أما أن تقي المواطن العربي من التهديدات الأجنبية، فهذا غير وارد”. وأضاف: “لديَّ جيش أستعرض به في 22 مايو، وليس لديه مهام، إلا إذا هناك تمرد أخمده لكي أبقى على كرسي السلطة”، وهذا ما يعزز ما أشرنا إليه سابقاً أزمة القيادة وتجيير المؤسسة العسكرية الوطنية لمصلحة أهداف شخصية ضيقة، وليس لمواجهة التهديدات الخارجية. وقد رأينا كيف استسلم نظام علي عبد الله صالح أمام استفزازات أرتيريا واعتدائها على أرخبيل حنيش، وبدعم كان واضحاً من كيان العدو الإسرائيلي.
والخلاصة أنَّ اليمن اليوم بات يمثل حارس البوابة الجنوبية لمنطقتنا العربية والإسلامية، ويشكّل نموذجاً يحتذى به، ذلك أنَّ اليمن الفقير المحاصر وصل بصبره وتفاني أبنائه المخلصين إلى مستوى لم تصل إليه دول العدوان ودول البترودولار.
والمفارقة هنا أن اليمن (يمن ما بعد الثورة) يملك قراره ويبني قدراته، فيما الآخرون مجرد أدوات مرتهنة لا تملك قرارها، ولا يسمح لها الأصلاء بأن تصل إلى مستوى متقدم قد يشكل دافعاً لتفوق عسكري خليجي على “إسرائيل”.
* المصدر : السياسية