شاع في ثقافتنا الوطنية موضوع البطل الأُسطوري الذي يحدث التوازن حين نهرب إليه بحثاً عن طموحات (الأنا العليا) في مقابل الشعور المنكسر بالهزائم من الواقع.. وقد كان سيف بن ذي يزن في مفردات الخطاب الثوري الذي قادته الحركات القومية والطلائعية في منتصف القرن الماضي بطلًا أُسطوريًّا بل أصبح رمزًا أُسطوريًّا حاضرًا في قوة الخطاب وفي مفردات الكلمة الشاعرة التي ترسم تموجات اللحظة وتنشُدُ وهَجَ الغد من بين ظلمات الماضي وضبابيته وهزائمه المتكرّرة في الذات وفي الآخر وفي الحضور وفي الغياب وفي الوعي الثقافي والإبداعي والاجتماعي.. بل وفي الوعي الوطني كافة.
وبمثل ذلك نكون قد حاولنا التأصيل لقيمة غير وطنية، إذ إن سيفاً لا فضلَ له في أي تحرّر وطني لكونه أخرجَ مستعمراً ووطَّنَ بدلاً عنه آخر وبذلك نرى انتفاء تلك الرمزية عن سيف.
ويبدو لنا من خلال السياق التاريخي لليمن أن تلك اليزنية كانت سبباً في تنافر النسيج الوطني وعدم انسجامه في مسارات وسياقات التاريخ ونكاد نقرأ تلك العقدة في تحَرّكات وأنشطة القوى السياسية التي صنعت واقعاً مأزوماً وصل إلى نفق مظلم يتعذر علينا الخروج منه إلا بمصابيح الآخر وقناديله.
إن قضيتنا ليست قضية استبدال حالة بحالة مماثلة لها ولكنها قضية انتقال ذلك أن الاستبدال يتطلب سقوط القائم وإقامة الآخر بدلاً عنه أما الانتقال فهو عملية توافقية لا تتسم بالثبات بل بالحركة تحاول أن تلبي طموحات السواد الأعظم من الجماهير بمختلف الطوائف والمذاهب والمشارب التي تنتمي إليها وهو -أي الانتقال- بمثابة صعود تراتبي من مرتبة إلى أُخرى تكون أفضل منها وأكثر استيعاباً لمتطلبات المرحلة، ويبدو أن بعض القوى الوطنية التقليدية تعمل جاهدة على حالة الاستبدال الذي هو هدم القائم والوقوف عند ذات المرتبة والقيمة، نستبين ذلك من خلال حالة الصراع الذي تشهده الساحة الوطنية وهو صراع يمتد في العمق التاريخي وله عوامله النفسية والاجتماعية والسياسية وهدفه تشتيت القوة وإضعافها وخلق حالة واقعية من حالات الاستغراق في سياسة الأزمات ومبرّرات الصراع بين الأصوليات العقائدية والسياسية.
ولعل ما حدث ويحدث اليوم قد دل على ذات المسار التاريخي القديم، فالذين لم يعتبروا من وقائع التاريخ ووقائعه وعبره وقعوا في ذات الشراك، فالانتقالي الذي خرج من عباءة الوطنية وخلع جلباب اليمنية وسار في طريق المستعمر، ها هو يصل إلى ذات الغاية التي وصل إليها غيره في مسار التاريخ، مثل ابن العلقمي ومثل أبي رغال ومثل حركة الجنوب العربي في القرن العشرين، فقد سبق للتحالف أن احتجز ابن بريك وحدّ من تحَرّكاته وها هو اليوم يحتجز الزبيدي، وكل التحَرّكات في الواقع تقول: إن التحالف يحاول تعطيل مشروع الانتقالي والعمل جار اليوم على تسليم ما تحت يد الانتقالي لما يسمى بالمقاومة الوطنية التي يرأسها طارق عفاش، وكل عميل يرتهن للخارج ويسلّم له تسليماً مطلقاً سيكون مصيره نفس المصير.
ثمة سيناريو جديد تبدو ملامحه اليوم في حركة الواقع في المحافظات المحتلّة من جنوب الوطن فالعمالات القديمة تستبدل بغيرها، ويتم إقصاء مكونات عقائدية بغيرها فالإخوان يستبدلون بالحركات الجهادية المرتبطة بالأجهزة الاستخبارية كالقاعدة وداعش والجناح العسكري للإخوان بدأ يمارس ذات الغواية في إقلاق السكينة العامة بحركة التفجيرات والاغتيالات ومثل ذلك أصبح ظاهرة تتصاعد وتيرتها يوماً بعد يوم، يأتي ذلك في ظل موجة تصريحات أمريكية ترى ضرورة المصالحة بين القوى المتنافرة في اليمن وتؤكّـد على أهميّة الاستقرار في اليمن في حين تبدو حركة الواقع غير متسقة مع التصريحات كشأن أمريكا فهي تضلل الرأي العام ولكنها تعمل بما يتفق ومصالحها دون أدنى اعتبار لمصالح الشعوب، فالهدنة اليوم على شفا حفرة من الانهيار؛ بسَببِ مطالب حقوقية وإنسانية، في حين نسمع خطاباً قلقاً وخوفاً من الانهيار الاقتصادي وزيادة الأعباء الإنسانية في اليمن؛ بسَببِ فصف الموانئ، فالثروة التي تهدر وتهرب عن طريق الموانئ ولا تعود على اليمن بشيء تفاقم من الحالة الإنسانية في اليمن وفق تصريحات البيت الأبيض ولكن مطالب صنعاء بحقوق الشعب الإنسانية تصبح مطالب تعجيزية وغير قابلة للتحقّق.
الصورة أصبحت واضحة اليوم للقوى السياسية اليمنية ولذلك فالذين يبحثون عن الاستبدال من خلال التذكير بالقوة والوجود والفاعلية وبإمْكَانية الثأر والانتقام، ومن خلال إضعاف منظومة الحزام الأمني وتبديد القوة في جبهات قتالية شتى إنما يحاولون العبث بعينه، ولا يحملون مشروعاً نهضوياً، وغايتهم السلطة والثروة وقد نالوا منها في زمن العدوان ما لم ينله غيرهم في زمن الاستقرار.
الانتقال من الصراع إلى الاستقرار والبناء قضية وطنية صرفة وهي توافقية لن تأتي من الخارج ولكنها وليدة الحالة الوطنية وتجلياتها، ولا معنى للعمالة فيها لكون العمالة متاه يزني لا بُـدَّ لنا أن نجتاز عقباته النفسية والثقافية والسياسية وهي عقبات كأداء.
اليمن ينتظر منا أن نصنع ألقاً حضارياً لا نكوصاً واجتراراً لعثرات التاريخ المختلفة والمتعددة سواء في ماضيه أَو حاضره فالعمالة متاه لا يحقّق مصالح اليمن بقدر ما يحقّق مصالح الدول التي نضع مصير اليمن تحت قدمها وقد قالت لنا الأيّام ذلك فهل نعود إلى الرشد ونصطف على مصالح اليمن؟.