إنّه صباح السبت، السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 642هـ. وصل إلى قونية. ماج الدهر، تدافع الربيع، مزّق الوقت ساعاته ونثر دقائقه اللازوردية، حتى كدت لا تعرف الفجر من الغسق، ولا الظهر من المغيب. التهب الماء في أباريقِ الفضة في مساجد قونية. بعض المحاريب تشققت شوقاً. مصابيح الظهر غدت من الضوع مزهريات تتراقص في الهواء المعشوشب بخضرة الحضرة. عمّال الغيب يتناوبون على إدراك الحاضر. بعضهم فهم، والبعض الآخر عاد إلى السماء يسأل ويتساءل: ما هي آلام العقل؟
ما هي محنة التحقيق؟ كيف يهوي الطود الشامخ من على بغلة؟! أي مقام احمرّت الأشجار حياءً منه ورهبة؟! لِمَ الضفاف لم تعد على أطراف الأنهار؟! لِمَ صارت كومات من الغيم المردوم على البسيطة لكنها تسعى، حتى صارت تتنازعها أسئلة من يدعون علماً، ولا جواب...؟!
هذا محفل الأسئلة وطاحونتها الكبرى. هذا بستان اللا جواب في المسموع. هذا رواق اللا شيء في المرئي. هذا مرج البحرين وهرج القلبين وزجج الروحين. إنّه المكين إذا مددت البصر، والقريب إذا أبعدت النظر. كان التاريخ يمر كأنّه البرق العسوف، في الليل المعتسف بالنهار المتعسف!
على من تقرأ مزاميرك يا داوود وليس من السامعين إلَّا اثنين؟!
الغموض سيد الحضور. هذا المحيط البشري أصم أبكم؛ لكنه ينظر فم الوادي ولا يستطيع رؤية نور محمد. كلهم محجوبون عن سناء النملة في مهد سليمان، وعن يقين إبراهيم في أصنام آزر. العلم حجاب. «مزِّقِه!»؛ قالها سيد الوقت. ألقِ بكل كتبك وقراطيسك في يمّ زليخة، واكسر دواتك التي بلّلت قميص يوسف من دمع يعقوب في أورشليم، فنوح ينادي للطوفان الثاني. وحتى تسلم؛ اكتفِ بدخان بركان العشق الذي أسعد السماء فانتشت عروساً للكون، واتكأت على الأرض لتشهد مخاض الروح الجديد من قريب. ولتكن أول الشاهدين على الشمس في روح مولانا.
في الستين من عمره كان ولد شمس تبريز، وفي الأربعين ولد مولانا الرومي، فكانت مئوية السماوات الشداد دليلنا على الخالق.
من الفصل العاشر من رواية «في حضرة العشق» للدكتور محمد حسين بزي، تصدر قريباً عن دار الأمير في بيروت.
* نقلا عن : لا ميديا