يتسم اليمن منذ القدم، ومع بزوغ فجر الإسلام بنزعة أبنائه الدينية، وشغفهم بطلب العلم، وانتشار المدارس العلمية والدينية في مناطقه الجغرافية على تعددها واختلافها، ما جعل اليمن مركزاً علمياً حضارياً يقصده طلاب العلم من بقاعٍ شتى في العالم، بحسب ما تشير إليه المصادر التاريخية.
هذا الإرث التاريخي لم يكن محدوداً بحقبة زمنية معينة، بل لا يزال حاضراً إلى اليوم، وكلما خفتت حركة المدارس العلمية الدينية جاء من يجددها ويحييها من جديد.
مدارس ودور القرآن الكريم، جزءٌ من تاريخ اليمن، كما لا يخفى على أحدٍ حجم الإقبال عليها، بل يُربّى اليمنيون في بعض المناطق على ارتيادها منذ نعومة أظفارهم، فينشأون على قيمها ومبادئها، ما أسهم في تخريج كثير من العلماء والفقهاء ورجال الدين، حتى اليوم.
وتذكر المصادر أن أول مدرسة قرآنية كانت الجامع الكبير، والذي كان يسمى مسجد صنعاء النبوي، وقد تخرّج منه كثيرٌ من العلماء الأجلّاء ورجال الدين.
دور العلماء في رفد مدارس القرآن الكريم
تذكر المصادر أن الإمام القاسم بن محمد جاء إلى اليمن وقد قل العلماء والديانون فيه، فبادر بإنشاء المدارس، فلم يمضِ عامان إلا وقد تخّرج منها 400 مجتهد.
فدور العلماء وأهل الاختصاص يكمن في إحياء هذه المدارس وتفعيل دورها، يقول عضو رابطة علماء اليمن السيد العلامة أحمد المروني: "للعلماء دور عظيم ومهم، وهنا نتحدث عن العلماء العاملين الربانيين لا المنظرين والجامدين واليائسين والآنفين عن العطاء والنزول إلى الساحة. فالعلماء العاملون هم صناع الرجال ومصنع الأبطال، والاستمرارية للمدارس أسها العلماء والمواصلة على الدرب أساسه العلماء، وكما جاء عن رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، ولولاهم ولولا جهودهم واستشعارهم المسؤولية لكانت الأمة في خبر كان كما يقال، فالعالم هو الذي يحيي العوالم ويكون في الله هائماً وفي الحركة دائماً وبالنقل والتحميل للخلف قائماً".
وأشار إلى أن هذه الدور تسمى في الأساس مدارس؛ لأن المسميات الأخرى تشوّهت عندما انحرفت مُخرجاتها عن قيم القرآن والإسلام.
بدوره اعتبر رئيس ملتقى التصوف في اليمن السيد العلامة عدنان الجنيد أن الأمة بحاجة إلى تعلم القرآن وفهم معانيه والعمل بما فيه، وهذا دور العلماء، قائلاً: "دور العلماء هو تعريف الناس بفضل القرآن وأهميته بالنسبة للإنسان كفرد ومجتمع وأمة في الدنيا والآخرة، وعقوبة من أعرض عن تعلّمه وفرّط فيه، وأيضاً الفضل لمن تعلّمه وعمل به، وحاجة الأمة إلى تعلمه وفهم معانيه والعمل بما فيه، وعليهم أيضاً حض الناس على المسارعة في تحقيق الهدف الذي أُنشئت مدارس القرآن من أجله وتعريف الناس بالثواب والأجر الذي وعد الله به من يساعد على تحقيق هذا الهدف، وكذلك من خلال حث الناس على الالتحاق بهذه المدارس ورفدها بما يلزم للقيام بمهامها.
أهمية مدارس القرآن الكريم ووظيفتها الأساسية
يضيف العلامة الجنيد: "تكمن أهمية هذه المدارس في كونها تقدم خدمة للأمة في تعليم أبنائها القرآن الكريم، وبذلك تكون قد حافظت على أهم جانب معرفي تحتاجه الأمة، ويمثّل تعلمه واجباً دينياً عليها؛ لأن في ذلك حفاظاً على الهوية الدينية ومنهج الحياة الكريمة بالنسبة للأمة ". مشيراً إلى أن تعلم القرآن الكريم في هذا الزمان من أهم الواجبات: "وتعلمه خاصة في هذا الزمان هو من أهم الواجبات؛ لأن في ذلك رضى لله ومحافظة على الكتاب الذي فيه المخرج للأمة والنجاة لها والعزة والكرامة لأبنائها أمام أعدائهم، والذي لا يمكن للأمة أن تبقى قوية وعظيمة إلا به".
وعدّ السيد العلامة أحمد المروني أن أهمية هذه المدارس_خاصة في ظل المحاولات الحثيثة لحرف الجيل الناشئ والشاب عن قيم دينه الأصيلة_تتعاظم عندما يكون الخطر محدقاً والاستهداف محققاً: "تربية النشء التربية الإيمانية، وغرس القيم والمبادئ في النفوس وترسيخها، وتقديم المعارف الصحيحة الحقة، وتفنيد الشبهات، وتعزيز الانتماء، والتزكية والتهذيب والتحصين للنفوس والعقول والقلوب من كل باطل يأتي بالمقلوب، وتتعاظم الأهمية عندما يكون الخطر محدقاً والاستهداف محققاً ".
وأضاف: "إن الوظيفة الأساسية لهذه المدارس تتمثل في صياغة الإنسان وبنائه على ضوء منهجية القرآن، فإذا صيغ هذه الصياغة كان عنصراً فاعلاً في المجتمع البشري، حيثما وقع نفع، وأي مسؤولية يُكلّف بها لا يتولى ولا يلتفّ".
ويتفق العلامة الجنيد مع العلامة المروني، في حقيقة أنّ مردود هذه المدارس من النفع يعود على المجتمع، قائلاً: "الوظيفة الأساسية لهذه الدور هي تعليم الأجيال القرآن وتفهيمهم معانيه، والعمل على أن يجعلوا القرآن فيهم متجسداً في واقعهم، ووظيفتها هذه مرتبطة بالمجتمع بصفة كلية؛ لأنها لو تحقّقت ستخلق مجتمعاً مثالياً سواء الفرد أو المجتمع، كما أراده الله وكما ينبغي أن يكون".
مدراس القرآن وتعزيز الهوية الإيمانية في المجتمع
وأشار العلامة المروني إلى أن المنهج القرآني كفيل بخلق الإيمان في المجتمع وتعزيز بنيانه، قائلاً: "تسهم مدارس القرآن في تعزيز القيم الإيمانية أكثر من غيرها، من خلال المنهج الذي تقدّمه، والنموذج الذي تنشده وتأمله".
كما اعتبر العلامة الجنيد أنّ قيم الهوية الإيمانية كفيلة بنهوض الأمة وازدهارها: "تسهم هذه المدارس في تعزيز قيم الهوية الإيمانية في المجتمع من خلال تعليم الأجيال أحكام القرآن وتفهيمهم عظمة وجلال وجمال وكمال القرآن الذي جاء بقيم الهوية الإيمانية، وكيف أن هذه القيم تعتبر مهمة لنهوض الأمة وازدهار واقعها وبناء مستقبلها والحفاظ عليها من كل سوء وجلب الخير كله إليها، فهي القيم التي بُعث نبي الإسلام بها، وبالالتزام بها تتحقق صفة الخيرية".
وعرّج على القيم التي ينبغي أن ترسخها مدارس تعليم القرآن، بالقول: "القيم التي ينبغي أن تترسخ عديدة، منها: أنّ الله أنزل إلينا القرآن ليكون صراطاً تعبر به الأمة إلى الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وكل الأحكام التي فيه تشكل قيماً تصنع مسلماً حقيقياً، وأن المسلم لا ينبغي أن يخضع إلا لله، وأن الحق لا بدّ أن يُنصر ويُضحى من أجله، وأن القرآن لا بدّ وأن يكون هو المنهج الوحيد للأمة، وواجب على المسلم تجسيد أحكامه واقعاً، وأن عدو الأمة هو من سماه الله عدواً في كتابه، وأن الصدق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الطاغوت وجهاد أعداء الله واتباع كل الأوامر التي تصنع القيم تعتبر واجبة على كل مسلم".
دور الجهات الرسمية في رفد مدارس القرآن
وأكد بدوره السيد العلامة أحمد المروني أن المسؤولية في ذلك جماعية بمن فيهم الجهات الرسمية، قائلاً: "مسؤولية الجميع كبيرة، فالأسرة تدفع بالأبناء، والتجار يدفعون بالأموال والهِبات والصِلات، والعلماء يدفعون بالذوات والأوقات والدعوات، والدولة تنظم وتنظم وترعى وتسعى وتُشرف ولا تسرف وتتشرف ولا تتعسف وتشجع ولا تودع وتستشعر المسؤولية ولا تكون في الموضوع منغولية!".
ويقول السيد العلامة عدنان الجنيد في السياق ذاته: "يتحتم على الجهات المسؤولة أن تعمل بكل جهدها، وأن تجعل من أولوية اهتماماتها تقديم كل ما يلزم لاستمرار هذه المدراس في تقديم رسالتها للناس، وعليهم استشعار عظمة هذا العمل وأهميته، وأيضاً ثوابه عند الله تعالى، وعقوبة التفريط فيه، والمسؤولية عنه أمام الله وأثر الإهمال فيه على الأمة".
* نقلا عن :الميادين نت