معركتنا مع العالم من حولنا هي معركة توازن ثقافي وحضاري وفهم هذه الخصوصية، هي التي تجعلنا في مراتب التأثير لا مراتب التلقي والخضوع لما يملى علينا، والقوة المفترضة هي القوة الثقافية والحضارية أما القوة المادية العسكرية والاقتصادية فهي عوامل مساعدة ليس أكثر من ذلك، ولذلك لم يستنكف العدوّ من النيل من البعد الثقافي والحضاري للعرب بنشاطه المكرس لهدم المثاليات والرموز والعمل على رسم صورة مشوهه وظلاميه عن الإسلام، بدأ هذا النشاط قبل بدء المعركة حتى تكون مبرّراً أخلاقياً في القضاء على النمط الثقافي والحضاري العربي.
فالصراع تجاوز البعد الاقتصادي ليكون مرتكزه البعد الثقافي والحضاري، فقضية إيران مع الغرب قضية ثقافية وحضارية، وصراعها صراع تفوق حضاري مع إسرائيل، فالغرب يرفض شكلاً أن تكون إيران دولة نووية ولكنه يغض الطرف عن نووية إسرائيل، ولذلك فالصراع في اليمن لا يعني إيران ولكنه يشكل ورقة ضاغطة لحسابات سياسية لها، وكذلك الوضع في سوريا فهو يشكل حالة توازن سياسي لإيران مع إسرائيل، وبالمثل فالعراق يشكل حالة توازن للغرب وإسرائيل مع إيران واليمن تشكل حالة توازن ثانوية لإيران مع السعوديّة التي تقدم نفسها كحليف للغرب الذي يشتغل على البعد الثقافي لاستغلال أموال السعوديّة في إدارة الصراع عبر الحركات والجماعات المسلحة.
وأمام تلك الصورة يتطلب الواقع وعياً حضارياً وثقافيًّا وتفاعلاً مؤثراً في مسار المرحلة وهي مرحلة خطرة تشهد تحولاً كَبيراً وعميقاً ولا بُـدَّ من مقارعتها بالوعي المؤثر في المسار لا بوعي التدمير والحرب والخراب الذي تديره الجماعات الخاضعة لسيطرة الجهاز الاستخباري الأمريكي الذي يفترض بنا الوقوف أمامه بقدر من المراجعة والتقييم حتى نستعيد سيطرتنا على مساراته وضبطها من خلال دعم الصحوة الفكرية والحركة النقدية، فالعصر الذي هجم علينا قبل الاستعداد له علينا أن نستعد له بالتحكم بمساراته والتأثير في نسقه العام، فالقوة التي تختزنها القيم الحضارية والأخلاقية هي أمضى من غيرها في عالم لم يعد مستقراً حضارياً وسريع التحول.
نحن اليوم في أشد ما نكون حاجة إلى الإصلاح الثقافي والأخلاقي ومثل ذلك أمر غير مستحيل إذَا فهمنا ماذا نريد؟ وفهمنا حركة التحول الاجتماعي؟ وحركة التبدل في علاقات الإنتاج التي تضبط قيم المجتمع؟ وفهمنا البعد الايديولوجي للطبقات والجماعات، فالمجتمع لم يعد كلاً متجانساً كما كان في العصور القديمة، بل حدث فيه تحول عميق في عصور الانهيار والاستعمار، وفي عصر النهضة، وفي زمن تشكل الدولة الوطنية، وفي الزمن الثوري الذي عاشه متأثراً بما حوله من حركات ثقافية واجتماعية وسياسية، ولذلك فالإرادَة الجماهيرية لم تعد إرادَة واحدة بل تعددت وأصبحت عدة إرادات متمايزة، فهناك إرادَة تقليدية متطرفة، وإرادَة إصلاحية، وإرادَة ديمقراطية، وإرادَة طلائعية تقدمية، وأي مكون سياسي يحكم يمثل مصالح الغالبية من الجماهير، ويمثل إرادتهم بقدر من التوازن السياسي والثقافي والأخلاقي حتى تستقر الأوطان، ما لم يكن كذلك يتعرض للهزات المدمّـرة، كما رأينا في نماذج الحركة خلال مطلع القرن الحالي.
فالإصلاح حركة ديناميكية دائمة التجدد، ولا يمكن أن تحدث الحركة في سياق منفصل من التراكم التاريخي لحركة المجتمع، لذلك فالهزات الكبيرة في ظل واقع مضطرب مثل واقعنا الذي نعيش تعمق الهوة في الشقاق داخل المجتمع، وقد تضيع الجهود دون عائد مجد منها إن لم نتدارك الأمر ونعمل ببصيرة وحكمة، فالمعركة اليوم لن تكون معركة عسكرية ولن يفكر التحالف بالعودة للخيار العسكري مطلقاً -كُـلّ المؤشرات تقول ذلك- بل هناك معركة ثقافية، وقد بدأ أوراها يشتغل في غفلة منا، ولذلك فاستنفار المؤسّسة الثقافية الرسمية وغير الرسمية من ضرورات المرحلة، ولا بُـدَّ أن نحدث ثورة ثقافية للإصلاح الثقافي والأخلاقي ومثل ذلك لا يمكن أن يحدث من خلال إرادَة واحدة فقط بل من خلال كُـلّ المجتمع بتعدد طيفه السياسي والاجتماعي، فالقواسم المشتركة موجودة بين جميع الإرادات المجتمعية، فغايتنا لملمة أشلاء المجتمع المتناثرة؛ بسَببِ الصراعات والحروب لا توسيع الخرق حتى يتعذر على الراقع رتقه.
* نقلا عن : المسيرة