إِنَّ الحديثَ عن مستقبل السلام في اليمن حديثٌ تحكُمُه حقائقُ تاريخيةٌ، تجمعُ ما بين الماضي بالحاضر، والتقليدي بالعصري، ويتداخَلُ مع السياسةِ السعوديّة التقليدية في التواصل العملي مع اليمن؛ كونهما ترتبطان بعلاقاتٍ أزليةٍ عميقة، فرضتها واحديةُ الدين واللُّغة والتاريخ والمصير المشترك، أضف إلى ذلك أنهما تشتركانِ في حدودٍ يبلغُ طولُها حوالَيْ 1200 كم تقريبًا، وبِغَضِّ النظر عن مظهر هذه العلاقة الجدلية التي شابها الكثير من التجاذبات والصراعات المعلنة وغير المعلنة، غير أنها أصبحت فجأة في حالةٍ يرثى لها، ومعها أصبحت أوهام السعوديّة حول التعامل كالمعتاد مع اليمن، ظربٌ من المستحيلات.
تلك الأوهام عميقة الجذور، منشأها منذُ بناء الدولة السعوديّة الكبرى المكونة من مساحةٍ جغرافيةٍ كبيرة وثرواتٍ طبيعيةٍ هائلة، وقامت على مدى عقود من الزمن، بالتوازي مع الفكرة الأَسَاسية المتمثلة بانتهاج سياسة دينية متشدّدة، قائمة على سياسة الاستحواذ والسيطرة والتوسع وبسط النفوذ على جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، وهو ما نلمسهُ في تواجدها في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وهكذا مع بقية بلدان اتّحادها الخليجي؛ لذلك فَـــإِنَّ الفكرة القائلة بأن العلاقات اليمنية-السعوديّة التي سادت عقود ما قبل الحرب، كانت في أوج ازدهارها، هي فكرة خاطئة.
صحيح أن النظام السعوديّ كان يعتبر اليمن حديقته الخلفية، وأحياناً أُخرى يعتبرها جزءًا من ممتلكات بلاطه الملكي، غير أن الرضوخ للإرادَة السعوديّة والتبعية المفرطة للأنظمة المتعاقبة على قيادة اليمن، وكذا حجم المساعدات والهبات وشراء الولاءات والتبادلات الاقتصادية والتجارية والاعتماد المتبادل والأيدي العاملة، كُـلّ ذلك لم يقدم أي شيء يذكر للرياض، غير ضمانات عملت على تأخير الانفجار والسخط الشعبي عليها والذي يكمن عميقاً في النفسية اليمنية منذ الأزل، وظل هذا النزوع المعادي لها بين الأوساط اليمنية حتى اعتقدنا أنهُ ظاهرة وراثية تتنقل بين الأجيال.
لقد كانت الثورة الشعبيّة في الـ21 من سبتمبر 2014م، نقطة التحول التاريخية، بالنسبة لجماهيرٍ عريضة صدمها ماضي ساستها المخجل، والمجحف بحق اليمن كأرض ووطن واليمنيين كأمةٍ وشعب، ما حرك فيهم مشاعر عميقة ناقمة ومناهضة للنظام السعوديّ، والكلمة تنطبق أَيْـضاً على حليفه الأمريكي، إذ لم يعد بعدها مكان أَو احتمال للانبطاح والتبعية أَو التفريط بالسيادة والقرار، وبات الأمر بعيدًا جِـدًّا، بل وينتمي إلى عالم الخيال.
صنعاء اليوم ليست كما كانت قبل ثماني سنوات، وتحديداً في الـ26 من مارس 2015م، وهو اليوم الذي أعلنت فيه السعوديّة من واشنطن عن تحالفٍ عربي غربي، وأطلقت حرباً جوية وبرية وبحرية وحشية ومدمّـرة، وأعلن البيت الأبيض مباركته ودعمه لها، وأفتى بمشروعيتها، والعالم بدوره رآها كذلك، إذ لا أحد يجرؤ على التحدث عكس ما يريد البيت الأبيض، فمع بداية هذه الحرب العبثية أزيلت كُـلّ الأقنعة، ولم يتبق شيء مرئي سوى الوجه البارد للعنف والدمار والخراب، ودموع التماسيح التي تذرفها المنظمات الأممية كلما سنحت لها الفرصة لذلك.
كان من المستحيل تقريبًا على بعض العرب هضم حقيقة أن السعوديّة أصبحت دولة عدوانية وإمبريالية وانتقامية ووحشية على بني جلدتها، بهذا الشكل وبهذا الصلف، وأن تصبح منيعة حتى على سياسات السلام الأممية والمنظمات الدولية، لولا أنها مُنحت الضوء الأخضر من حليفتها أمريكا، وشوهدت السعوديّة وهي تتمايل زهواً ببزتها ذات النزعة العسكرية المتزايدة، غير أنها بدت فيها وكأنها بطة تحولت فصارت نسراً، وهذا لا يعني أنها أضحت نسراً، بعد أن كُسرت هيبتها ومرغ أنفها في الوحل اليمني في أكثر من اتّجاه.
بدون الولايات المتحدة، ربما لم يكن لدى ابن سلمان الشجاعة الكافية لإعلان حربه على اليمن، وبدون المرتزِقة المحليين، وبدون الوسائل العسكرية والدعم اللوجستي الأمريكي والغربي ما كان له أن يتحَرّك قيد أنملة، وهذه فكرة واقعية بالنسبة للسعوديّين أنفسهم، حتى ولو تجاوزت استجابة الظروف العديد من التوقعات، إلا أن الأحداث مقياس للواقع الذي لا يزال يؤكّـد بأنهُ يتعين على النظام السعوديّ إظهار المزيد من الاحترام ومن النوايا الحسنة والكثير من المصداقية، أمام اليمنيين، إذَا ما أراد السلام فعلاً، والكلام ينسحب على الأمريكي أَيْـضاً.
لقد حوّلت هذه الحرب، اليمنَ بشكلٍ أكثر عُمقاً من أي حدثٍ آخر، وأفسحت عقلية التصدي والمقاومة والانتقام، الأكثر حدة فيها، المجال أمام بزوغ فجر الوعي بأن القوة العسكرية مطلوبة في السعي لتحقيق الأهداف العسكرية والاستراتيجية في سبيل التحرّر والاستقلال، والانعتاق ونيل السيادة، بعد أن هدأت الحرية كمطلب في فقدان الذاكرة، لكن ثمة مشروعٍ قام بتحفيزها في جهدٍ هائل لإنقاذها، وبات الشعب اليمني ينظر إلى الحرية على نطاقٍ واسع على أنها مرادفة للهواء الذي يستنشقُه، بعد أن بدأت صنعاءُ بتشييدِ مداميكِ عصرِ إعادةِ الترتيب، حتى أتمَّتْه، وقد اضطرّت في السنوات الماضية إلى التكيُّف مع الحرب وفقاً لذلك.
حقيقٌ أن كُـلّ عائلةٍ في اليمن لديها ذكرياتُ حربٍ مؤلمة، والتاريخ يخبرنا عن كثير من المآسي، فبعد أن كان البعض متردّد، والبعض اعتقد أن الحياد يخدم اليمن بشكلٍ أفضل، أصبحت اليوم كُـلّ المشاعر الشعبيّة اليمنية الساخطة هي من تقود الطريق في اتّجاه أي تصعيدٍ قادم، إذ كان في العادة يتحَرّك السياسيون ويتبعهم الناس، هذه المرة الناس هم من سيقودون الدفة، بعد أن تحدّد مسار البوصلة، وتحدّد العدوّ التاريخي، والذي صار بين خيارين إما الاعتدال والرضوخ للمطالب، وإما انتظار المصير القادم والمجهول.
لقد ولى زمن مناقشة حجم الطماطم أَو شكل الموز والعنب أَو نوعية التفاح وجودة المانجو المنقول من اليمن إلى السعوديّة.. في مكانها، يحتدم الجدال حول نوعية الصواريخ البالستية، وعن شكل وكمية الطائرات المسيَّرة التي يمكن أن تحقّق إصابات بليغة في العمق السعوديّ، وحول الطوفان البشري التأديبي الصاخب، الذي سيجتاح ما وراء الحدود، بعد أن بدأ الكثير من اليمنيين في اعتبار السلام أمراً مفروغاً منه، حتى البسطاءُ صاروا على درايةٍ كافيةٍ في أن القوة الصلبة كأدَاة في السياسة الخارجية أَو الشؤون الجيوسياسية هي الأنجح والأنسب، وما لنا إلا انتظار ساعة الصفر.