يصرّ الغربيون على تسمية الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية وإزالة الاحتلال ونيل الاستقلال بـ”الإرهاب”، وهذا في حدّ ذاته إرهاب غربي للمناضلين من أجل الحرية، ويشكّل سردية خطيرة يجب التوقف عندها وفضح زيفها بكل الطرق الممكنة.
من المفيد جداً والمحزن أيضاً متابعة أخبار ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلّة من العدو الغاصب، وخاصة منذ بداية هذا العام، وبعد وصول حكومة إرهابية متطرّفة فوق التطرّف الصهيوني المعهود في الكيان الغاصب تعمل على مواصلة تصفية الفلسطينيين جسدياً بارتكاب مزيد من أبشع المجازر بحقّهم، واتخاذ مزيد من الإجراءات العنصرية القاتلة بحق أسراهم، ومواصلة ارتكاب حرب إبادة ضدهم وضد تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم منذ مجازرهم الأولى في دير ياسين وصبرا وشاتيلا.
في زحمة ما يقال وما يكتب وما يتم تداوله من أساطير صمود الشعب الفلسطيني الذي يبدع دوماً في ابتكار أساليب المقاومة، وانعكاسات هذه الجرائم الصهيونية على تصدّع جدار الكيان نفسه، وردود الأفعال العربية والدولية، واللغة المنافقة المقززة التي يستخدمها الناطقون باسم الإدارة الأميركية، والتي في جوهرها تبرّر كل ما يرتكب هذا الكيان الدموي المتوحّش من جرائم يندى لها جبين الإنسانية تحت مسمّى “الدفاع عن النفس”، بعد ما استقرّوا على وصف النضال الفلسطيني من أجل الحرية ضدّ الاحتلال بـ”الإرهاب” وتسمية كل مدافع عن شرفه وكرامته وحريته ووطنه بـ”الإرهابي”.
في وسط هذا الصخب الإعلامي الذي يحاول بعضه إيصال الوجع من دون نجاح، فيما يتقن بعضه إساءة استخدام اللغة لتوصل رسالة مناقضة تماماً لما يجري على أرض الواقع؛ حمايةً لصورة العدو الصهيوني، وشدّاً على يديه ليستمرّ في غيّه وحربه الإجرامية على شعبٍ أعزل يعمل جاهداً ليعيش بحرية وسلام على تراب آبائه وأجداده، نحتاج إلى وقفة استراتيجية نقلّب فيها السرديات المستخدمة من قبل بعض الأطراف المعنيين علّنا نجد مدخلاً إلى صوغ حقيقة واضحة تمكّن من يرغب من اتخاذ موقف موضوعي وسليم.
أولاً، أن يصرّ الغربيون على تسمية الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية وإزالة الاحتلال ونيل الاستقلال بـ”الإرهاب” فهذا في حدّ ذاته إرهاب غربي للمناضلين من أجل الحرية، ويشكّل سردية خطيرة يجب التوقف عندها وفضح زيفها بكل الطرق الممكنة، خاصة أن الغرب هو الذي يصرّ على عدم تعريف “الإرهاب”، رغم مطالبة قوى ودول في العالم بهذا التعريف منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ثانياً: أن يستمرّ المناضلون الفلسطينيون وبعض المعنيين فعلاً بقضيتهم بمطالبة الولايات المتحدة بـ”الضغط” على الكيان الإرهابي لإيقاف إجراءاته العنصرية أو التخفيف منها فهذا بحدّ ذاته، بالإضافة إلى أن عقوداً أثبتت أنه لا طائل منه ولا فائدة تُرتجى، يفترض سلطة أخلاقية لدى الغرب لا يمتلكونها أصلاً. فلماذا يتمّ وضعهم في مكان أخلاقي ليسوا أهلاً له، رغم العلم أن مثل هذه المناشدات لن تجدي نفعاً، ولن تقدّم أي فائدة لنضال الشعب الفلسطيني ولن تسنده؟! بالعكس، فإن تصريحات المسؤولين الأميركيين عقب كل جريمة صهيونية وانتهاك لحقوق الشعب الفلسطيني بالعيش الحرّ الكريم على أرضه تجعلهم شركاء في الجريمة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد دعمت الولايات المتحدة المجزرة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال العنصرية في جنين فقتلت ستة شبان فلسطينيين وجرحت العشرات بالقول: “نحن نتفهم أن قوات الجيش الإسرائيلي كانت تلاحق إرهابياً قتل مدنيّيْن إسرائيليّيْن بما يمكن وصفه بهجوم مروّع الشهر الماضي” وهو ما فعلوه بعد كل مجزرة يرتكبها الصهاينة منذ مجزرة دير ياسين ولحدّ اليوم. كما قال نيد برايس الناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية، وأضاف: “لإسرائيل الحق المشروع في الدفاع عن شعبها على أرضه ضدّ كل أنواع العدوان بما فيها الصادرة عن المجموعات الإرهابية”، ثم يتحدث عن التهديدات الإرهابية التي تواجهها “إسرائيل”، ولا يذكر معاناة الشعب الفلسطيني طوال أكثر من سبعين عاماً من أبشع نظام أبارتيد عرفته البشرية.
إذا كانت هذه اللغة وهذه المفاهيم هي اللغة التي يكررها المسؤولون والناطقون الرسميون الأميركيون والغربيون عموماً، وهم الذين زرعوا هذا الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، فمن المعيب التوجّه إليهم لممارسة ضغوط على كيان عنصري دموي يعدّونه شرعياً “وعلى أرضه” التي هي أرض فلسطين، ويتم نفي الحق الفلسطيني في أرضه وترابه، وتوصيف أي عمل مقاوم ضد الاحتلال الأجنبي بالإرهاب. إذا كان الهجوم الإسرائيلي على مطار حلب، والذي يستقبل إغاثات لمنكوبين بكارثة طبيعية قد تم وصفه بـ”الهجوم المزعوم” وكأنه ليس مؤكّداً؛ فأيّ لغة وأيّ مفاهيم يمكن مناقشتها مع أعداء ألدّاء لايعرفون للإنسانية معنى كهؤلاء شاطروا العدوّ الصهيوني أساليبه وأدواته وأهدافه وهما سيّان لا فرق بين أحدهما والآخر، وأيّ محاولة تمييز بينهما تمنح الذي يُقصد تمييزه شرفاً لا يدعيه ولا يستحقه أصلاً.
أمّا أن يزور دبلوماسيون أوروبيون بلدة الحوارة التي عاث بها المستوطنون قتلاً وهدماً وإحراقاً، وأن يطالبوا بتعويض سكانها الفلسطينيين، مكتفين بالقول عن بشاعة وهمجية ما اقترفه المستوطنون العنصريون مدعومين من “جيش” الاحتلال في حوارة وزعترة: “إن عنف المستوطنين أمر خطير، ويجب أن يتوقف” مع أن حركة “بتسليم” الإسرائيلية قالت إن المستوطنين ارتكبوا جرائمهم بحماية “جيش” الاحتلال الذي سمح للمستوطنين والإرهابيين بالحرق والقتل والهدم، بينما لم يسمح للمتضامنين الدوليين بالدخول إلى البلدة للاطلاع على آثار الجرائم، وأن يتحدثوا عن تعويض للسكان الفلسطينيين؛ فلا تعويض عن القتل والإذلال والهدم إلا بإزالة الاحتلال والاستيطان.
في هذا الصدد، تركّز وسائل إعلام كثيرة اليوم على التظاهرات في “إسرائيل”، وعلى رفض البعض خدمة الاحتياط، وعلى قرب تفكك الكيان من الداخل، كما يحذّر الإسرائيليون من انتفاضة ثالثة في رمضان، إذا ما استمرّ الكيان الصهيوني بإجراءاته الإرهابية وانفلات مستوطنيه المسلّحين وقوات إجرامه من أي عقال لارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، قد تكون بالفعل مرحلة حرجة دخل فيها الكيان الغاصب نتيجة تجاوزاته كل حدود الإجرام والإرهاب، وقد تكون منذرة بانتفاضة ثالثة خاصة وأننا على أبواب شهر رمضان الكريم، وقد يتحفنا الشعب الفلسطيني البطل بعبقرية المقاومة والتضحية والفداء المعروفة عنه ويسطّر ملاحم جديدة في هذا الصّدد.
ولكن المطلوب اليوم فعلاً وبإلحاح أن يعيد بعض العرب الموهومين بقوة هذا الكيان وقدرته حساباتهم في التطبيع مع هذا الكيان لسبب وجيه، وهو أن هذا التطبيع قد يكون اليوم أحد أسباب القوة لهذا الكيان، والتي تساعده على الاستمرار في قتل الفلسطينيين وتهديد الأقصى. ولذلك، فالمطلوب ليس فقط انتفاضة في فلسطين، وإنما انتفاضة ووقفة عزّ على مدى الساحة العربية تعلن أن الشأن الفلسطيني ليس فلسطينياً فقط، وإنما هو شأن عربي، وأن الشعب العربي في أقطاره كافة ينتفض لفلسطين ويضع نفسه بتصرّف أهلها وشبابها ومقاوميها الشرفاء. وليس في هذا منّة على الفلسطينيين، وليس هذا حتى من أجل فلسطين فقط، إنما هو من أجل مستقبل وكرامة وعزة كلّ عربي، فلا يمكن أن يكون العربي عزيزاً ومحترماً في المغرب أو مصر أو العراق أو البحرين أو أيّ بلد عربي آخر وهو يتلقى الصفعة تلو الصفعة والتنكيل إثر التنكيل في فلسطين المحتلّة. بالإضافة إلى أن فلسطين هي المختبر الذي يُجري عليه الصهاينة اختباراتهم الدموية والتصفوية لكل ما هو عربي ولن يتوقفوا هنا، ولن يتوقفوا حتى “من الفرات إلى النيل” لأنهم أعلنوا منذ عقود أن هدفهم هو إنشاء “الولايات المتحدة الإسرائيلية” في الشرق الأوسط كما أنشأ المستوطنون الغربيون الولايات المتحدة الأميركية على أرض السكان الأصليين، وهم لم يكونوا أقلّ وحشية ودموية من الصهاينة، بل هم المثال الذي يقتدي به هؤلاء الصهاينة المتعطشين للدماء والثروات العربية.
ولنتذكر يوميّاً أن ما يجب أن نقدّمه لفلسطين والشعب الفلسطيني إنما نقدّمه لأنفسنا درءاً عن أنفسنا وحفظاً لكرامتنا، و”للساننا العربي المبين” الذي حبانا الله عزّ وجلّ به، ولكرامة أبنائنا ومستقبلهم. وإذا كان بعض العرب لا يؤمنون أنهم في قارب واحد مع فلسطين ومصيرهم مصير واحد مع أشقائهم فإني أؤكّد لهم تأكيد العارفة أن الغرب كلّه والعدو الصهيوني يراهم “كعرب” لا فرق بين أحدهم والآخر، مهما طبّعوا ومهما سالموا. تذكرون تماماً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، كلّما واجهوا مشكلة شككوا في أنها إرهابية يقولون :”لوحظ وجود عربي في المكان” أو “لوحظ مرور عربي من هنا” أو ” ركوب عربي في الطائرة”. هم يعلمون أن تقسيمات سايكس بيكو لا تنزع من ضمائرنا وقلوبنا كلّ هذا الإرث المشترك، وكلّ هذه اللغة التي خصّنا الله عزّ وجلّ بها دون غيرنا من البشر؛ فهل نقتنع نحن بأننا أمة واحدة في عدة أقطار، وأنّ ما نقدّمه لأيّ من الأشقاء العرب هو لأنفسنا؟ وهل نحوّل القناعة إلى عمل في هذه اللحظة المصيرية الواعدة؟
* المصدر: الميادين