|
كربلاء.. والثورة
بقلم/ عبدالرحمن مراد
نشر منذ: سنة و 3 أشهر و 25 يوماً الجمعة 28 يوليو-تموز 2023 08:45 م
شهر محرم من كل عام هجري مقرون بثورة الحسين واستشهاده، ولعلنا اليوم أكثر تمثلا لكوارث كربلاء التي وقعت عام 60 للهجرة، يبدو لي أن الزمن على وعد بتناسخ الأحداث وتماثلها، فكربلاء بقدر ماهي مأساة إلا أنها تذكرنا بخاصية التحول وصناعة الأجد في حياة البشر، فالثورة ليست إلا عملية كيمائية تحدث في المجتمعات البشرية كي تذكِّر البشر بالحق والخير والعدل، وتقف أمام غرور الحاكم كي تعيده إلى الأنساق الحرة التي جاءت بها الشريعة السمحاء .
– يقول البردوني :
” الأسى يبعث الأسى والأشباه تذكِّر بأشباهها كما تُلفت النقائض إلى نقائضها، ولعل هذه الفترة أقوى شبها بفترة ثورة الحسين واستشهاد بطلها، لأن الحسين بن علي خرج في زمن التعطل من التاريخ، ولو تحرك الحسين في زمن تحرك التاريخ لما سقط شهيدا على يد أولئك الرجال من أتباع يزيد، ولكنها فترة العقم توجه الحدث إلى خلفه، وتعكس الوجه إلى ذيله ” .
إلى أن يقول :
” وهذا التعطل – يقصد التعطل في حركة التاريخ – في جانب يؤدي إلى امتلاء الجانب المعاكس، فقد أدى تعطل الإرادة الخيرة بمقتل الحسين، إلى انتصار الانتهازية السفيانية الأموية، كما سبب تعطل هذه الفترة من الإرادة العربية إلى غلبة الصهيونية والإمبريالية حتى أصبحت كل المنطقة كولاية أمريكية أو كمستوطنة صهيونية .
أليست حكمة التاريخ أحرى بالاسترجاع اليوم، للبحث عن مكامن القوة النائمة، لأن بعد كل فترة نقيضها والاستعداد لها يسهل امتلاكها قبل أن تملك قيادنا، فزمن الظروف السيئة هو موسم اكتناه عظائم الأحداث في التاريخ، فعندما تتغيب الثورات عن مواقعها يتبدى تاريخ البطولات أهدى إلى طريقها ” .
فيزيد كحاكم مستبد لم يكن إلا مثالا للحاكم العابث بمصير البشر، ولم يكن الحسين عليه السلام إلا مثالا للإرادة الحرة في الحياة الكريمة، ولم يكن أئمة الهدى عبر المسار التاريخي إلا ثوارا خرجوا انتصارا للناس حتى ينالوا الحظ الوافر من الخير والعدل والحرية، انتصارا للقيم المثلى التي جاء بها الرسول الأعظم .
واليمن هي من أكثر الأقطار ميولاً إلى الثورة لتأصُّل هذه الفكرة في البنية الثقافية والبنية العقائدية، ولكنها من أقل الأقطار إحداثاً للتحولات والتبدلات، فكل الثورات لم تكن تستهدف تغييراً ملحوظاً أو تبدلاً في المسارات بل كانت تستهدف إبدال وجه بآخر وصورة بأخرى مع بقاء الشكل كإطار دال على استمرار الماضي في صميم التجارب، وقد كان ذلك هو ديدن المراحل ولذلك ظل الماضي هو العائق الوحيد أمام المستقبل في كل المراحل.
فثنائية الثبوت والتحول في حركة المجتمع في اليمن لها وجهان عميقان في البنية الثقافية، وهما ممتدان في التاريخ، فالوجه الأول هو الوجه الثبوتي الذي تمثله فكرة الخلافة الوراثية التي قال بفكرتها معاوية بن أبي سفيان وحشد لها النصوص التي تؤيد هذه الفكرة، وقد نشط في زمنه الرواة الذين كانوا يصنعون المبرر النصي إلى درجة شيوع ما اصطلح على تسميته علماء الحديث بالإسرائيليات، والإسرائيليات هي منظومة نصية تختص بالحديث النبوي والوقوف أمامها بالتحليل للفكرة وفق منهجية الجدلية التاريخية يفضي بنا مسارها إلى الصراع العشائري ليس أكثر من ذلك، وهذا الوجه عطّل قدرات الأمة وحدَّ من قدراتها، وشلَّ فاعليتها، لكنه كان الأكثر تأثيراً في حركة المجتمع والسياسة وفي حركة التاريخ..
والوجه الآخر هو الوجه التحولي، وهذا الوجه تمثله فكرة الثورات التي قادها آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يمثل الثورة التحولية التي تتحرك في جانب الشعب وبالشعب في مقارعة الظلم كما يظهر ذلك في جل المراحل والمحطات التاريخية على وجه العموم، أما على وجه الخصوص فالزيدية في اليمن مثلت فكرة الثورة التحولية والشافعية كانت تمثل فكرة الثبوت وبينهما تكوّن تاريخنا وهو ممتد في كل التجارب التي تتجانس في بعض المراحل وتتضاد في أخرى، وما يحدث اليوم من صراع يحمل ذات السمات الثورية التحولية والثبوتية الخلافية، فالماضي يناوش بثبوته والمستقبل يحاول تحقيق وجوده، فالثبوت الذي عليه تيار الإخوان والسلف -كسمة ثقافية لوجه تحالف العدوان- في مقابل فكرة الثورات التحولية التي عليها حركة أنصار الله كامتداد لتيار المقاومة العربية والذي تبدو إيران في صدارة مشهده ويمكن قياس ذلك في صورة المشهد السياسي في عمومه في المنطقة العربية.
أقول فالثبوت والتحول تلاقيا من جديد في جانب صراعي دامٍ، فتحرك جانب بين آتٍ لا يأتي لقلة وسائل صنعه، وبين ماضٍ لا يرجع لانعدام الحياة فيه، وإن دلت عليه أصوات وأصداء، لهذا فالعملان مجرد حركة هزيلة في فراغ، فالماضي مستحيل الرجوع لكن الغد ممكن الميلاد وهو يستدعي جدة نفوس الداخلين فيه، وقدرة تجديده وتجديد نفوسهم معه حتى لا يصبح ماضياً ممتداً في زمن جديد أو نفترض جدته، وحيوية كل عمل تكمن في أفكاره الحياتية التي تتنازعها الفصائل والفرق والكيانات في صور غير متجانسة، فالسمة الغالبة للبناء الثقافي في مشهدنا السياسي اليوم لا تعدو عن كونها نزوعاً دينياً يبزغ من طرفه بمفهوم عائم الحس الوطني.. والملاحظ أن غموض المرحلة زاد من غموض الفكرة، غير أن مكوناتها الأولى تصلح أساساً للبناء الجديد لأنها بذرة حية قابلة للنمو. |
|
|