يحمل لنا شهر محرم الحرام ذكرى أليمة وفاجعةً كبيرة لازالت آثارها ونتائجها في أمتنا من يوم وقوعها وإلى هذا الزمن، هي ذكرى حادثة كربلاء، ذكرى عاشوراء، ذكرى استشهادُ سبط رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذه الذكرى التي هي في العاشر من المحرم.
الإمام الحسين لم يكن مجهولاً ولم تكن قضيته مشتبهة حتى أن الأمة لا تعرف هل هو على حق أم هو على باطل, لا, لكن الأمة هي التي كانت هي قد وصلت إلى حالة خطيرة من الابتعاد عن قيم الإسلام من بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ حيث رُبيت تربية ثانية, تربية تختلف عن تربية الإسلام, تختلف عن تربية القرآن, تختلف عن تربية محمد (صلى الله عليه وآله), تربية توصل إلى أن يكون الإنسان في ذلك المستوى الدنيء يجند نفسه ويعبِّد نفسه مع الطغاة المجرمين, مع من يذهبون به إلى نار جهنم, مع من يدفعون به في مواقف كلها ظلم, كلها باطل, كلها طغيان
الحسين (عليه السلام) يمثل بحق مدرسة إسلامية متكاملة، مدرسة إسلامية، من سلوكه من موقفه، نعرف الإسلام بحقيقته، نعرف الإسلام بسلوكه، الإسلام بقيمه نستذكر الحسين الرمز والقائد والمعلم لنتحرك من مدرسته القرآنية المحمدية في مواجهة كل التحديات ولنتحمل مسؤوليتنا في مواجهة الظلم والعمل على إصلاح الواقع.
العوامل والأسباب التي صنعت مأساة كربلاء هي نفسها وذاتها التي صنعت مأساة العصر في كل الواقع الإسلامي، وهي صنعت مآسي أمتنا في كل المراحل الماضية، الأسباب والعوامل واحدة جعلت واقع أمتنا الإسلامية في كل مراحل تاريخها وفي ماضيها وأيضاً في حاضرها يكون الأبرز فيه هو المأساة.
أهمية إحياء يوم عاشوراء
وتأتي أهمية إحياء مثل هذه الذكرى الأليمة، من أهمية هذا اليوم نفسه ولنا بداية وقفة مع أهمية يوم عاشوراء والتي تتمثل في :
-
ارتباط حاضر ومستقبل الأمة الإسلامية بماضيها
واقعة كربلاء (حادثة عاشوراء) لم تكن مجرد حدثٍ تاريخيٍ يختص فيما يتعلق به من ظروفٍ، وملابساتٍ، وأسبابٍ، وحيثياتٍ بمرحلته فقط، وبزمنه ووقته فقط، تتناوله كتب السيرة والتاريخ، وتدون تفاصيلها بالأرقام والأسماء، وانتهى الأمر.
بل كان هذا الحدث حدثاً كبيراً ومهماً، ومأساوياً بكل ما تعنيه الكلمة، وله أهميته كبيرةٌ تتعلق بالأمة الإسلامية بشكلٍ كبير، تتعلق بماضيها، بما يصحح مسار حاضرها، وبما يرسم ملامح مستقبلها.
كما أنها تتعلق بدينها وحمايته من الانحراف والتضليل الأموي، الذي خرج الإمام الحسين عليه السلام شاهرا سيفه، وباذلاً مهجته، في سبيل إصلاح ذلك الانحراف، وبيان طريق الهدى المحمدي الأصيل، وهذا ما عبر عنه عليه السلام بقوله:
(ما خرجت أشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لإصلاح أمة جدي).
-
نزول الوحي بوقوع المأساة وتفاصيلها
فرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، قد أُخْبِرَ عن طريق الوحي من الله “سبحانه وتعالى”، بمقتل الإمام الحسين “عليه السلام”، واستشهاده، والأرض التي سيستشهد فيها، وسمَّاها رسول الله:
((أرض كربٍ وبلاء)) بطريقة تدلنا على عِظَم هذه الواقعة، وكبر هذه الحادثة، ومدى تأثيراتها الكبيرة جداً، ومدى وقعها وتأثيرها على رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
ولأهمية الواقعة فقد تحدَّث عنها رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” قبل وقوعها بزمن، بحديث مهم، فلم يكن مجرد إخبارٍ عن حدثٍ-مستقبليٍّ-بشكلٍ عادي، بل تحدث عنها كحادثةٍ مؤلمةٍ وكبيرةٍ وخطيرةٍ، ذات علاقةٍ بالرسول، ولها أثرها على الرسالة، وعلى الإسلام، كما أنها تمسُّ برمزٍ عظيمٍ من رموز الإسلام، ولها دلالاتها الكبيرة، وأسبابها الكبيرة، وتأثيراتها الممتدة في واقع الأمة.
-
ردود الفعل المتعددة من النبي صلوات الله عليه وآله
ومما يدل على أهمية هذه الحادثة وعظم المأساة أن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بكى الإمام الحسين في محطاتٍ متعددة، بعد أن نزل عليه الوحي بشأن استشهاد الإمام الحسين “عليه السلام” بكل ما يمثِّله من امتدادٍ للإسلام الأصيل، ومظلوميته، ومأساته، وما يواجهه في واقع الأمة من معاناةٍ كبيرة، في إطار الموقف العظيم الذي سينهض به.
كما أن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في أثناء مرضه الذي توفي فيه، ودَّع الإمام الحسين “عليه السلام” وداعاً خاصاً، ففي الرواية عن ابن عباسٍ رضي الله عنه، قال:
((اشتد مرض رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”، فحضرته وقد ضم الحسين إلى صدره، يسيل من عرقه عليه، وهو يجود بنفسه))، وهو يقول:
((ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد، اللهم العن يزيد، ثم غُشِي عليه طويلاً وأفاق، وجعل يقبِّل الحسين وعيناه تذرفان
ويقول: أمَّا إنَّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله)) فهذا الوداع الخاص بالإمام الحسين “عليه السلام” الذي ودَّعه به رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، يبين لنا علاقة الحادثة والواقعة بالرسول نفسه حتى “صلوات الله عليه وعلى آله”.
واقعة كربلاء.. شاهد على الانتقام الأموي من الرسول والرسالة
كربلاء حقد جاهلي وانتقام أموي
كان من الأهداف الرئيسية ليزيد لعنه الله: أن ينتقم من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فهو ما زالت عنده عقدة الانتقام من خلال الموروث الجاهلي، ولا يزال يحمل الموروث الجاهلي، والموقف الجاهلي، الذي تصدَّر فيه بنو أمية الحرب ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” على مدى سنواتٍ طويلة إلى حين فتح مكة، واستسلامهم في فتح مكة.
فيزيد بعد استشهاد الإمام الحسين “عليه السلام”، وحين وصل جنوده برأس الإمام الحسين “عليه السلام” إليه، قال شعره المشهور الذي كانت بعض أبياته لأحد شعراء المشركين، والبعض من أبياته من يزيد نفسه، فتمثَّل ببعض الأبيات، وأضاف إليها أبياتاً أخرى، ذلك الشعر الذي يقول فيه:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا |
جزع الخزرج من وقع الأسل |
لأهلـــــوا واستهلوا فرحاً |
ثم قـــــالوا: يا يزيـــد لا شلل |
فجزينـــــــاهم ببدرٍ مثلها |
وأقمنــــــــــا ميل بدرٍ فاعتدل |
لست من عتبة إن لم أنتقم |
من بني أحمــــد مــا كان فَعَل |
لذلك كان للحادثة والواقعة علاقة بالرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، فهي حربٌ تستهدفه، تستهدف الانتقام منه، لما يمثِّله الإمام الحسين “عليه السلام” من صلةٍ بالرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في امتداده بحمل الدين الإسلامي، وبمشروعه الإسلامي العظيم بنقائه وصفائه.
كربلاء عودة لأصول الصراع بين الإسلام والكفر
ونستلهم من هذه الواقعة التي دارت بين قطبين أولهما سبط رسول الله وأهل بيته في زمرة لا تتعدى سبعين مجاهدا، وبين قوى الطغيان الأموي اليزيدي يتجلى أن هذه الواقعة تحمل بعداً يعود بنا إلى أصل الصراع ما بين الإسلام وبين الكفر، ما بين رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وما بين المشركين الكافرين، الذين حاربوا الإسلام، وعملوا على إطفاء نور الله.
كربلاء بوصلة الأمة نحو الهدى المحمدي في محيط الطغيان الأموي
كما أن لهذه الواقعة علاقتها بالأمة في الأجيال كلها على امتداد التاريخ، من حيث ما يمثِّله الحسين “عليه السلام” للأمة؛ لأن العلاقة بالحسين “عليه السلام” هي علاقةٌ به في موقعه في هداية الأمة، فهو رمزٌ عظيمٌ من رموز الإسلام والهداية، فهو من قال عنه رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”:
((حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط))،
((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما))، ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) لذا فهو في موقع الأسوة والقدوة والهداية، وموقع الامتداد الأصيل للإسلام ومنهجه الحق.
كربلاء ثورة حسينية ضد انقلاب بني أمية
بعد أن مرَّت مرحلة طويلة كان بنو أمية-من موقعهم في الشرك والكفر-يصارعون الإسلام، ويحاربون الرسالة الإلهية، انتقلوا إلى مربع النفاق، إلى موقع النفاق؛ والذي أتى نتاج انحرافٍ سابق، انحراف أوصل بني أمية إلى ما وصلوا إليه من التمكن والانقلاب على الإسلام لمحاربة الإسلام من الداخل، والتحرك بمشروعهم النفاقي الذي كان كارثةً كبيرةً وخطيرةً على الأمة الإسلامية.
وبلغ التهديد ذروته في عصر يزيد، من خلال سعيه لإحياء الموروث الجاهلي، وطمس معالم الإسلام، لذا الإمام الحسين “عليه السلام” عندما تحرك في قضيته، إنما تصدى من خلال تحركه للانقلاب الأموي على الإسلام، وعلى منهجه الحق.
واقعة كربلاء.. الدروس والعبر المهمة
هذه الواقعة المأساوية، وهذه الأحداث الأليمة، لها أهميتها الكبيرة من حيث ما تحمله من الدروس والعبر، وهي دروس وعبر مهمة جداً منها:
-تقييم الواقع، وأسباب الانحراف، والتأثير السلبي للانحراف في واقع الأمة:
لأن البعض من الناس يتساهل في مسألة الانحرافات، والتي تبدأ متدرجة، وصولا إلى انحرافات عملية عن منهج الله الحق، انحراف عن تعليمات مهمة في دين الله “سبحانه وتعالى”، فيتصور أن المسألة مسألة عادية، لكنها-عادةً- يكون لها تأثيراتها وتبعاتها، وتتعاظم، فيصل إلى مستويات خطيرة لم تكن متوقعة على مستوى الفرد، ثم يكون لها تأثيراتها الكبيرة على مستوى واقع الأمة، وهذا درسٌ مهمٌ جداً؛ لأن وصول يزيد من خلال الانقلاب الخطير الأموي على الإسلام والمسلمين، كان نتاجاً لانحرافاتٍ سابقة تدرجت وتعاظمت، ومنها عندما مُكِّنوا هم بما هم معروفون به سابقاً من عدائهم للرسول وللرسالة، عندما مُكِّنوا من أن يكون لهم قوة، ونفوذ، وحضور، وإمكانات، حتى أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه.
–
دروسٌ وعِبَرٌ تتعلق بعوامل السقوط الأخلاقي والإنساني:
حادثة كربلاء قدَّمت حالات كثيرة ممن انحرفوا، وقدمت نماذج ممن سقطوا إنسانياً وأخلاقياً، وانحرفوا عن الموقف الحق، ومن هذه الحالات:-
1-الانضمام إلى صف الباطل، ومحاربة الحق:
حيث رأينا من وقف في صف الباطل بعد أن عرف الحق، بعد أن كان منتمياً إلى نهج الحق، وإلى صف الحق وأهله، ثم وصل في يومٍ من الأيام إلى درجة الانحراف، فوقف في وجه الحق معادياً محارباً، وهذه لها أحداث ونماذج مذكورة على المستوى التفصيلي في التاريخ.
2-التخاذل:
وهناك من تخاذل، من تنصل عن الموقف الحق، والذي كان يجب أن يقف موقف الحق كجزءٍ من التزامه الإيماني والأخلاقي والديني، مما يدفعه لأن يقف الموقف الحق في وجه الباطل، في وجه الطغيان، في وجه الشر، فعوامل السقوط الأخلاقي والإنساني، وأسباب الانحراف، تمثل أيضاً دروساً مهمة للناس في كل زمن، وحتى لمن ينتمون إلى منهج الحق.
–
عوامل الثبات والتوفيق:
عندما نقرأ التفاصيل في الأحداث سواء التي وقعت ما قبل عاشوراء، أو أثناء عاشوراء، أو بعدها، فإننا نتعرف على عوامل التوفيق الإلهي، على أسباب التوفيق، وأسباب الثبات، والتي تساعد الإنسان على أن يحظى بتوفيق الله “سبحانه وتعالى”، وأن يثبت في موقف الحق فلا ينحرف عنه، مهما كان حجم الأحداث، مهما كان مستوى الأحداث ومستوى التضحيات، لدرجة أن يكون حاضراً، وأن يكون مستعداً لأن يضحي بنفسه، بحياته، بروحه، وأن يثبت على الحق، وألَّا يُستَزَل عن طريق الحق لأي سبب.
-خطورة التخاذل والتفريط:
كان من أكبر الدروس والعبر فيما يتعلق بأحداث كربلاء، العواقب الرهيبة للتخاذل والتفريط، والذي كان له نماذج سابقة في مجتمع الكوفة، سواءً في تخاذلهم أيام الإمام عليٍّ “عليه السلام”، ونماذج بعد تخاذلهم عن الإمام الحسن “عليه السلام”، ثم تخاذلهم عن الإمام الحسين “عليه السلام”، وما نتج عن ذلك التخاذل والتفريط من عواقب سيئة وخطيرة على المستوى الديني، وعلى مستوى واقعهم في الحياة.
-التزود بالعزم:
والجد المثابرة في التحرك الفعال، مع التوكل على الله، والاعتماد عليه، والالتجاء إليه.
–
الاستشعار للمسؤولية:
سواء المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية، بحيث يتحرك الجميع بروحية الفريق الواحد، متعاونين متكاتفين، بلا تواكل.
–
إدراك سلبية التقصير:
والوعي بهذا هو من أهم الدروس لأن عواقبه وخيمة جدا في الدنيا والآخرة، وتفتح المجال، وتهيئ الساحة للعدو من أن يتمكن من السيطرة وبسط النفوذ على العباد والبلاد، ولذلك تبعات مهينة ومخزية للأمة كافة.
-تفنيد كل الذرائع:
والتي يتذرع بها البعض، ليجعلوا منها سبباً، أو وسيلةً، لتنصلهم عن المسؤولية، ومبرراً لتقصيرهم، وتفريطهم، وإهمالهم.
فكلها دروسٌ كبيرة، ودروسٌ مهمة، وعِبَرٌ كثيرة يحتاج إليها الناس؛ للاستفادة منها في كل زمن وفي كل مرحلة، ولا غنى لأحد عنها.
*نقلا عن : موقع أنصار الله