لمُجَـرّد أن يقرأ عنوان هذه الورقة قد يظُنُّ البعضُ أنها تعنيهم أَو تحاول الإشارة إليهم بصورةٍ أَو بأُخرى، فكما يقال في المثل اليمني: “إذن السارق توز”، طبعاً أنا لستُ ممن يحبِّذون نبش قبور الموتى، أَو ممن يأكلون لحوم المسؤولين المسمومة، أَو من دعاة التخوين والتجريح في وطنية ونزاهة “سين أَو صاد” من السياسيين؛ لأَنَّ المرحلة التي نعيشها اليوم هي من أخطر المراحل التي يتوجب علينا جميعاً بذل المزيد من التلاحم والتراصِّ؛ لتدعيم وترسيخ ركائز الجبهة الداخلية في مواجهة العدوان، لكن هذا لا يمنع من الوقوف على الأخطاء والإشكاليات والتجاوزات الحاصلة، ونحاول تشخيصها ونقف على مسبباتها ونعمل على حلها ومعالجتها قبل أن تتراكم وتستفحل؛ فتصعب مواجهتها.
في السياق ذاته، تطرق السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي، في كلمته بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام زيد (ع)، والذي اختتمها، بقوله: “فيما يتعلق بالجانب الرسمي نأمل -إن شاء اللهُ- أن نعمل على إحداث تغييرات جذرية، نحن نُخضِع الواقع الرسمي الآن للتقييم، وتشخيص الإشكالات، ولديه الآن الكثير من الخطط والبرامج والأنشطة، ومن الواضح أن واقعه يتطلب الإجراء لتغييرات جذرية، ولكن نحن الآن في حال التمهيد لذلك”.
لا شك أن الجميع يعرف أن مصطلح “الدولة العميقة” في اليمن، والذي برز بقوةٍ مع بداية ثورة الشباب في فبراير 2011م؛ وهو الأمر الذي أَدَّى إلى وأدها في مهدها بعد أن ركبت عناصر الدولة العميقة تلك الثورة؛ فغيرت مسارها وأهدافها، وشاهدنا كيف تعالت الأصوات في تلك الفترة وارتفع الضجيج عن الدولة العميقة، فما يجب أن نعرفهُ أن ما يسمى الدولة العميقة ليست دولة داخل دولة كما يحلو للبعض وصفها، بل هي الدولة ذاتها بترتيباتها المؤسّساتية، وتنظيمها المتجذر والممتد أفقياً ورأسياً، وبقدراتها القمعية والإكراهية والاستقطابية، والتلون مع أي محيط، بأدواتها التضليلية والنفسية وأساليبها في التتبع والتجسس، وبرامجها التنسيقية التشاركية، وإطارها الإعلامي والثقافي والديني والقبلي والتي بنت لها الشرعية الزائفة وزينت سلوكها المشين في الانبطاح والاستقواء بالخارج.
لم يمر وقتٌ طويلٌ حتى توسع الظهور والانتشار مجدّدًا لمصطلح الدولة العميقة، عقب ثورة الـ21 من سبتمبر 2014م، تلك الثورة الشعبيّة التي خرجت بروحٍ جماهيرية بحتة تتطلع للعزة والكرامة وتتوق للحرية والسيادة والاستقلال، والتي سلكت مسلكاً تصالحياً يحقّق أهدافها ويمنح النظم السابقة فرصة للتعايش، في إطار ما عُرف آنذاك باتّفاق السلم والشراكة، والذي وضع تسوية واتّفاقات لا تجتث رموز النظام السابق، كما لم تهمل وضعَ المتضرِّرين والمجني عليهم الذين وقعوا ضحايا ذلك النظام، وعملت على نقلِ المجتمع اليمني من مرحلة الصراع إلى مرحلةِ المصالَحة الاجتماعية والسلم الاجتماعي، من خلال برامج وأعمال اللجان الثورية التي انتشرت في كُـلّ قطاعات الدولة، وأسهمت إلى حَــدّ كبير في حلحلة الكثير من القضايا والإشكاليات التي ظلت عالقة لسنوات على أسسٍ كشفت الحقائق ومكَّنت الضحايا من التعويض المادي والمعنوي.
في المقابل كانت القوى الإقليميةُ والدولية المهيمنة تراقب متوقعةً أن تتجهَ الثورةُ الوليدةُ نحوَ مسارٍ انتقامي عنيفٍ مع القوى المحلية التقليدية، غير أنها لم تفعلْ ذلك؛ إدراكاً منها أن خيارَ تفكيك النظام (الدولة العميقة) وبنيانه وهياكله دفعةً واحدةً وإحلالَ نظامٍ جديد، سيؤدِّي إلى حدوثِ فوضىً عارمةٍ أَو حربٍ أهليةٍ قد لا تبقي ولا تذر، وبالتالي يُطيلُ أَمَدَ الصراع، الذي أرادتْهُ قيادةُ الثورة أن يجفَّ إلى الأبد؛ فحقّقت بذلك التوازُنَ، واجتثَّت فقط رموزَ الفساد والإفساد وأساطين الخيانة والعمالة؛ ما أربك قوى الهيمنة الإقليمية والدولية وأقلقها؛ لتستجمع قواها وترتب منظومتها للحيلولة دون نجاح هذه الثورة، فإلى جانب الإيعاز لعناصر الدولة العميقة بالركوب على صهوة الثورة الوليدة، شنت في الـ26 من مارس 2015م، حرباً كونية على اليمن الأرض والإنسان، في محاولةٍ لخلق ظروف مناسبة تهيئ لأدواتها العودة إلى سدة الحكم من جديد، في إطار ما أسمتهُ “عاصفة الحزم، وإعادة الأمل، ودعم الشرعية، والثورة المضادة”، وغيرها من المسميات والترتيبات.
وعلى مدى تسع سنوات من العدوان، حملت الكثيرَ من الأحداث والمواقف والكثير من الآلام والمآسي، والأحزان والجراح، والتي ما كان لها أن تظهر بهذه الصور المهولة لولا وجود وتغلغل ما يسمى بعناصر وأدوات الدولة العميقة في مفاصل الدولة اليمنية ومؤسّساتها وتفرعاتها، والمجتمع وكياناته وشخوصه، والتي لم تتجسد في شخص الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، الذي رسخها خلال فترة حكمة التي امتدت لأكثر من أربعة عقود فحسب، بل تعدت إلى أشخاص آخرين غيره بعد أن استطاع أن يؤسس منظومة فساد واسعة.
هذه المنظومة ليس لها انتماء محدّد ولا تحصرها “منطقة أَو حزب أَو مذهب”؛ إذ إنها عبارة عن شبكة معقَّدة من لوبيات مالية وعسكرية وأمنية وسياسية وحزبية وقبَلية؛ وهي شبكةٌ متينةٌ في قوتها، معقَّدةٌ في تركيبتها، ومتباينةٌ في أهدافها التي سعَت دوماً للحفاظ على بقائها وتمدُّدِها، ومن المؤكَّـد أَيْـضاً أن هذه المنظومة لم تكن يوماً ما في معزلٍ عن الخارج؛ إذ ظلت لها حتى اللحظة ارتباطاتٌ وعلاقاتٌ متينة بقوىً مشابهةٍ على المستوى الإقليمي والدولي، يربطُها هاجسٌ واحدٌ هو الحفاظُ على مكانتهم ومصالحهم من أي تهديدٍ قد ينشأ.
خلال 9 سنوات مضت، وعلى الرغم من هزائمه النكراء وإخفاقاته المتكرّرة، لم يدخر تحالف العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي البريطاني الصهيوني، سلاحاً ولا وسيلةً ولا أدَاة ولا ورقةً إلا واستخدمها ضدنا، وهكذا سيظل؛ ففي إطار الهُدنة المزعومة وخفض التصعيد، يسعى جاهداً لاستغلال ورقتِهِ الأخيرة والمتمثلة بعناصر الدولة العميقة والتي هي عبارة عن ذلك التحالف العميق “القديم الجديد” الذي ظل أكثرَ من أربعين عاماً يجمع في طياته بنيان الدولة اليمنية المختلفة، من جهاز إداري وسياسي وإعلامي ومؤسّسات عسكرية وأمنية واستخبارات وقضاء ودعاة ومثقفين ورجال دين وشيوخ قبائل وتجار ورجال أعمال… إلخ، والتي تمسك بزمام الأمور في كثيرٍ من إدارات ومفاصل الدولة، وتعمل جاهدة على ترفيع عناصرها واستثنائهم من أية محاسبات أَو مساءلات، وعدم تعرضهم لأية حملات إعلامية، ولأية متابعات قضائية إن اهتز هذا النظام أَو تلك الحكومة أَو استجدَّت أحداثٌ من شأنها زعزعةُ المنظومة التي يستظلون بظلها ويحتمون بسلطانها، وينهبون ويفسدون بوجودها.
ولو ألقينا نظرةً فاحصةً على مختلف مفاصل الدولة من حقائبَ وزارية ومحافظين ومديري هيئات ومؤسّسات، حتى على مستوى قسم شرطة أَو أمين سر محكمة أَو أمين شرعي أَو عاقل حارة، سنشاهد أن عناصرَ الدولة العميقة ما زالت هي الفاعلة داخلها، وتعملُ في تعاضُدٍ عجيبٍ، كُـلٌّ منها يدعم الآخر، ويشهد للآخر؛ فإذا ما صدر توجّـه لإصلاح ما فسد في إدارة أَو مؤسّسةٍ ما تجد هناك من يعملُ على خنقها ويزرع القلاقل فيها؛ حتى تضعف وتتهاوى، إلى درجة أن يتم القبول بها كأمرٍ واقع، وبات كُـلُّ توجّـه لبناء الدولة ومحاولات محاربة الفساد والاختلالات يواجَهُ بعدم الانصياع لها ويقابَلُ بالاستهجان والسخرية والدعايات الكيدية، وَإذَا ما وجدت شخصيات وطنية نزيهة لا تنتمي لمنظومة الدولة العميقة يتم العملُ على إفشالها بجعل إدارته تعملُ في الحدود الدنيا من القدرة؛ وهو ما يُضعِفُها ويجعلُها تتهاوى وتفشل، والرهانُ على الزمن حتى تفقدَ ثقةَ الجمهور والعاملين فيها.
وللإنصاف والأمانة المِهَنية عند تقييمنا للوضع الراهن؛ فليست عناصرُ الدولة العميقة وحدَها هي من تنخرُ في جسد الجهاز الإداري للدولة اليمنية؛ إذ إن هناك بعضاً ممن ترقوا في مناصبَ قيادية ووظائفَ إدارية مختلفة هم في الأَسَاس ممن كانوا مستضعَفين، وخرجوا من رحم الثورة ومحسوبون على الثوار، وأمام بَهْرَجِ المسؤولية وزينتها انحدرت نفسياتهم وذبلت روحياتهم، وسقطوا في مستنقع الفساد والإفساد والتحصيل المالي وتساقطوا كالأوراق اليابسة من شجرة “المسيرة القرآنية” المباركة وقيمها ومبادئها التي تربَّوا عليها، فاتجهوا ليشكِّلوا لوبياتٍ جديدةً تزاوجت وتماهت مع المنظومةِ السابقةِ حتى صارت جزءًا منها.
لقد أصبحت عناصر الدولة العميقة اليوم كما كانت في السابق متغلغلةً إلى حَــدٍّ قد يعتقدُ البعضُ أن اختراقَها ضربٌ من المستحيل، وأن تفتيتَها من الداخل أمرٌ يحمل الكثيرَ من المجازفة والخطورة؛ إذ قد يتفتت بتبعاتها كيانُ الدولة ككل؛ لأَنَّها تركيبةٌ معقَّدةٌ ومتداخلةٌ أشدَّ التداخل، تجتهد ألّا تترك مجالاً إلا واكتسحته وزرعت أذرعاً لها فيه، سواءٌ أكان ذلك المجال سياسيًّا أَو اقتصاديًّا أَو ثقافيًّا أَو إعلامياً وحتى رياضياً وصحياً، بل وفي أي مجال تتوقَّعُهُ مهما صَغُرَ حجمُه وقلت قيمته، ما دام له تأثيره وأثره، وهذا ما نسمع به في كثير من التقارير التي يتم رفعها للقيادة الثورية، في تهويلٍ يجافي عينَ الصواب والمنطق، وأن هكذا اعتقاد انهزامي محبط، اعتقاد خاطئ؛ فمن سلك طريقَ الجهاد الخارجي لن يثنيَ عزمَه وإرادتَه أن يسلُكَ طريقَ الجهاد الداخلي أيُّ ظرفٍ أَو مبرِّرٍ، والعاقبةُ للمتقين.
*نقلا عن : المسيرة