يظل الإنسان هذا الجنس البشري المكرم كغريزة وجود في دؤوبية مستمرة قوامها المحاولة والتجدد في تناول أيها شيء في الحياة، فيأبى الرتابة والملل، ويسعى دائما إلى تجاوز المعهود والمألوف.
هذا الحال ليس محصورا بوصف أو تصنيف، كما يحكم الجميع بلا استثناء، سواء الذات أو الذوات الفردية، فكل يسعى لتجاوز ذاته، كما يسعى لتجاوز الذوات الأخرى كمنافسة مشروعة، وسواء الأطر الكنتوتية أو الجماعاتية أو الأممية أو الدولية... يُدخل السباق الإنساني الحضاري والمحاول في هذه المساحة الفكرية أيضا الأزمان والأماكن، كل يسعى في تجاوز مثيله، وما قول أحدهم بأن التاريخ نهر يسير إلى الوراء ويقضي المتقدمون إلا حقيقة ناجعة عن هيمنة هذا الشعور، ولعله سر من أسرار مواجهة الظروف الملابسة والمتلازمة لهذه الحياة.
هذه الفكرة تتسع لتشمل كافة المجالات المادية والمعنوية. كما أنها تضم في طياتها أيضاً التجاوز والتنافس بين الأجناس، وما قصة عفريت من الجن «آصف بن برخيا» تغيب عن الاستشهاد في هذا السياق الحيوي المتنامي.
عموماً، تظل فكرة التجاوز ديمومة حيواتية لا تقف عند حد معين ولا زمن ولا وجود متفاعل، فهي سر حقيقي ارتبط بعوامل أهمها الأمل ونسيان الفناء المحتوم. كما أن هذه الفكرة استطاعت أيضا أن تتسع لتصل إلى ما بعد الموت، واتسقت مع حقيقة وجود عالم آخر حسبما يؤكد اللاهوتيون، كمحاولة نيل درجة متجاوزة عن الآخر من خلال العمل المطلوب لمقتضاه، وكذلك انسجام تلك الفرضية مع الارتقاء المادي في الوجود الحياتي، واتخاذهما الأسباب ذاتها المتبعة في الرقي الحضاري والعلو والتكريم في الآخرة.
وبالتالي فهناك من يعمل ويجتهد لغاية مادية حياتية، والبعض الآخر يعمل لهذه الغاية ولغاية ملازمة لها، كوجود بعد الموت يحتوي على بعث وحساب وحياة.
كل ذلك يجعلنا نعجب من سعي البعض لهدم هذه الفكرة والاكتفاء بالكسل والترويج له، وهو يدرك أن النسق الوجودي الشامل لا يختلف مع الأنساق الأصغر المكونة للنسق الأشمل طالما التجاوز هو سر حياة ومكث خير وليس التجاوز بالدمار والهلاك.
* نقلا عن : لا ميديا