في البدء كان حدث 7 تشرين الأول/ أكتوبر فعلاً ميدانيا وزلزالا جيوسياسيا مفاجئا، على إثره فقدت النخبة السياسية القدرة على السيطرة على مجريات الأحداث. ومن تلك اللحظة فصاعدا تتطور الأحداث وفق القوانين الجيوسياسية، ليصبح أقصى ما يتمكن السياسي من فعله هو الاستجابة للواقع سلباً أو إيجاباً بعقلانية أو تهور.
من هذه الأحداث الجيوسياسية المرتبطة بـ«طوفان الأقصى» مشاركة القوات المسلحة اليمنية بقيادة أنصار الله في المعركة إلى جانب الشعب الفلسطيني، وهي مشاركة يتحدد سيرها بمتطلبات الواقع، وقد تدرجت وصولاً إلى القرار الأخير بحظر التجارة البحرية مع كيان الاحتلال ما لم تدخل المساعدات لسكان قطاع غزة.
على إثر هذه التهديدات اليمنية، المجربة، بادر الكيان الصهيوني إلى إبلاغ الولايات المتحدة وألمانيا بأنه إذا لم يتحرك العالم ضد هجمات اليمن على السفن في البحر الأحمر، فإنه سيتحرك عسكريا ضد صنعاء.
الولايات المتحدة تحدثت قبل ذلك عن عملها على تشكيل تحالف بحري مُعادٍ لليمن. إلا أن قرب الانتخابات الرئاسية -بمشاركة بايدن الذي يعد بالتهدئة في المنطقة منذ الدورة الأولى لرئاسته- يجعل من المستبعد اتخاذ قرارات حرب ومواجهة مباشرة یدخل فيها جيش بلاده، ولذا سارعت واشنطن إلى تأكيد أن قواتها المتواجدة في اليمن تقوم بعمل استشاري لمكافحة الإرهاب ولیست لأعمال عسكرية.
أمريكياً: خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية بدين يبلغ 130% من الناتج المحلي الإجمالي. والآن، وبدون أي حرب، يبلغ دين الولايات المتحدة 130%.
بمعنى أن الولايات المتحدة لا تستطيع في الوقت الراهن تحمل زيادة إنفاق الميزانية عدة مرات على أي شيء، سواء كان ذلك زيادة في ميزانية الجيش، أو حربا كبرى، أو حتى تحديثا للبنية التحتية للبلاد.
لذا یضع الأمريكيون والقادة الغربیون بعين الاعتبار الاستفادة من عیدروس الزبیدي وطارق صالح والعلیمي كأدوات لمواجهة صنعاء في حال اتخاذ قرار المواجهة المباشرة، والاستفادة من التمويل السعودي الإماراتي، ومن المستبعد أن تقبل السعودية ذلك حتى الآن. وتضع أمريكا في الحسبان تشكيل التحالفات الواسعة لتوزيع الكلفة وهي المساعي التي أشرنا إليها أعلاه.
سياسيا: زعم المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، أن وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، أكد خلال لقائه نظيره السعودي على منع المزيد من انتشار الصراع، وتعزيز الاستقرار والأمن الإقليميين في أعقاب الحرب على غزة.
بدوره، قال السعودي إن بلاده ستواصل العمل من أجل إنهاء الحرب في اليمن.
الاقتصاد العالمي ما يزال متأثرا من ركود أزمة كورونا ولن يخاطر بإيقاف الحركة الملاحية في البحر الأحمر، خصوصا مع العجز عن تنفيذ حرب خاطفة توقف التهديد اليمني.
اقتصادياً: يستخدم هذا الطريق البحري لعبور البضائع القادمة من آسيا. ومن المعروف أن المستوردين الأوروبيين يحصلون عبر البحر الأحمر على الوقود، ويمر فيه ما يقدر بـ10% من الشحنات والبضائع البحرية العالمية.
واقعياً: الولايات المتحدة عاجزة عن تمويل حرب مفتوحة في اليمن، إلى جانب غزة وأوكرانيا، وإذا اتخذت قرار المواجهة في اليمن بأي مستوى فستكون بحاجة الى مساعدة كل من بريطانيا وفرنسا بصورة مباشرة، إلى جانب الیابان ودول الخليج، وقد يكون البيان الفرنسي عن التصدي لمسيّرات في البحر الأحمر جزءاً من هذه المساعي.
حتى الآن لا يوجد مؤشرات للتوجه نحو حرب مفتوحة في اليمن بقيادة أمريكا أو دول الخليج، إلا أن الولايات المتحدة و«إسرائيل» ستكونان مضطرتين للرد على اليمن ولو بصورة رمزية، للمحافظة على سمعتهما، وبالتالي فمن المحتمل أن يكون الرد كالتالي:
- مبدئياً الحصار الاقتصادي والضغوط الاقتصادية والعقوبات، ودعم الحكومة العميلة سياسياً. هذه القرارات لها الأولوية، وسواء مع وجود حرب عسكرية أم دونها، سوف تتخذ، وقد بدأت بواسطة برنامج الغذاء العالمي.
- التحالف البحري من المحتمل تشكيله؛ لكن في ضوء الظروف الحالية ستكون مهمته على الأرجح التصدي للصواريخ والمسيّرات وليس الاشتباك مع البحرية اليمنية.
- ضربات عسكرية محدودة على مواقع في العاصمة أو الحديدة، ستكون ضربات كهذه مهمة للأمريكي و«الإسرائيلي» للخروج من الحرج.
هذه المستويات من الرد هي الواقعية في الظروف الحالية، مع استمرار العملية السياسية في اليمن والسعي نحو حل، ومع بذل جهود لاستئناف الهدنة في غزة.
في حال انهار مسار السلام في اليمن وغزة، فسيكون من الواقعي انفجار حرب في البحر الأحمر؛ لكن كلفتها ستكون شديدة على التجارة الدولية وعلى القواعد العسكرية الأمريكية التي تطالها الصواريخ اليمنية، فستكون الخيار الأخير، وعلى إثرها سوف تفتح جبهة الحديدة، وربما مختلف الجبهات، ستكون حربا إقليمية فعلية، ودول المنطقة غير مستعدة لها، بما في ذلك الإمارات والسعودية ومصر.
* نقلا عن : لا ميديا