“ألستم تملكون صرخة أن تنادوا:
الله أكبر
الموت لأمريكا
الموت لإسرائيل
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام
أليست هذه الصرخة يمكن لأي واحد منكم أن يطلقها؟ بل شرف عظيم لو نطلقها نحن الآن في هذه القاعة… وتكونون أنتم أول من صرخ هذه الصرخة… وستجدون من يصرخ معكم – إن شاء الله – في مناطق أخرى”.
في زمن رسم فيه الأميركيون أحداث ومسارات المنطقة، كانوا يهزون فيه العصا للحليف لمزيد من الإخضاع وللند ترهيباً، بحروب متنقلة أسقطت حكم طالبان في أفغانستان وصدام في العراق… خرج صوت السيد حسين الحوثي يخترق المسامع في اليمن. من أكثر المناطق حرماناً وتهميشاً جبال مران، ومن صعده، أفقر المحافظات اليمنية خرج السيد حسين بدرالدين الحوثي، بمحاضرات ومضامين كانت تنقل وعي المحتشدين لسماعه إلى حقيقة الصراع، مكانهم فيه ومسؤلياتهم تجاهه.
أممياً بدا الرجل، لا لأنه قرر أن يخرج من دائرة منطقته ومحيطه، بل لكونه كان اسلامياً في مقاربته، قرآنياً في قراءته، يصارح اليمنيين أن أزماتهم المعيشية لا تنفصل عن أزمة أمة بكاملها مستلبة الوعي ومدجنة بالكامل في نمط حياتها واستهلاكها، يسوقها إلى الهلاك عدو واحد.. فكانت الصرخة.
والصرخة لم تكن شعاراً، بل أتت كموقف أراد الحوثي أن يثبته في وعي مريديه. أراد منه إعادة تثبيت هوية الأمة، مشخصاً من خلاله العدو والمسار لبلوغ النصر. أن تطلق الصرخة – بمنظور السيد حسين الحوثي- يعني أن تسجل الموقف، وقد قال في محاضرة، ألقاها بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير 2002، بعنوان “الصرخة ضد المستكبرين”: “سنصرخ وإن كان البعض منا داخل أحزاب متعددة، سنصرخ إينما كنا نحن لا نزال يمنيين ولا نزال فوق ذلك مسلمين، نحن لا نزال شيعة، نحن لا نزال نحمل روحية أهل البيت عليهم السلام التي ما سكتت عن الظالمين… أليس هذا الزمان هو زمن الحقائق ويتجلى فيه كل شيء؟ لا يجوز أن نسكت، بل يجب أن نكون سبّاقين، وأن نطلب من الآخرين أن يصرخوا في كل اجتماع.. حتى تتبخر كل محالوة لتكميم الأفواه”.
أثقل من أن يتحملها نظام علي عبدالله صالح في اليمن، أتت الصرخة. الرئيس اليمني الذي كان يعاني القلق جراء كوابيس “ما بعد” سقوط نظام حليف له في بغداد، لم يكن ليغامر بأن يخرج من إطار نفوذه في اليمن صوت قد يزعج واشنطن.
كما وأنه في حمأة الاندفاعة الرسمية العربية لتبني مصطلح “محاربة الإرهاب”، الذي رفعته واشنطن من دون أن تقدم تعريفاً واضحاً للإرهاب، كان علي عبدالله صالح حريصاً على أن يحجز له مقعداً في صفوف المنضويين تحت لواء الأميركيين، محارباً شرساً لكل من لا ترضى عنه أمريكا. هذا ما جر الرجل إلى حرب صعده الأولى عام 2004م. وبحكم تعقيدات المجتمع اليمني ولأن الرئيس اليمني كان يرغب في أن يأخذ مشروعية داخلية ، وضوءاً أخضر أميركياً للحرب.. أتت حملة التشويه لتقدم شخص حسين الحوثي إلى اليمن والمنطقة بالصورة التي رسمتها السلطة. كل الإتهامات لم يوفرها النظام اليمني السابق، وظفها كلها متناقضة بدت أم لا، بالجملة كانت تتم عملية الشيطنة.
فزُعم أن تمرداً خرج في صعده بقيادة رجل ادعى “الإمامة” ودعا الناس إلى مبايعته، وكان من شأن هذه التهمة أن تثير حساسية كُرست في اليمن لعقود سبقت، بعد اسقاط نظام الإمامة بفعل ثورة أتت بالحكم الجمهوري عام 1962.
ولم يُكتف باتهام الحوثي بإدعاء الإمامة، بل خرج الإعلام الرسمي ومعه فضائيات عربية تقول إن زعيم “حركة التمرد في صعده” إدعى أنه المهدي المنتظر، ولاحقاً اتهم بأنه ادعى “النبوة”، كانت هذه التهم تشتغل بالتوازي مع انتقادات من داخل البيئة الزيدية لأفكار السيد حسين الحوثي خرجت، مدفوعة من النظام الرسمي، كان يريد الحكم منها أن يقوله إن حربه ليست حرباً مذهبية بل هي ضد فئة ضالة.
كما جاء من ضمن الاتهامات: الاعتداء على أفراد القوات المسلحة، والتحريض على عدم دفع الزكاة للدولة،و إثارة الشغب في المساجد، وإنزال علم الجمهورية اليمنية ورفع أعلام لجهات خارجية -تلميحاً إلى ايران – ولاتهامه لاحقاً بالسعي إلى نشر التشيع الاثني عشري في اليمن.
كل ما يمكن أن يصلح كاتهام وظفه النظام اليمني ضد الحوثي، وكررته الفضائيات العربية لنا كجماهير عربية. كفئة متمردة وضالة قدم الإعلام العربي “الحوثيين”، وهو المسمى الذي أطلقه نظام على عبدالله صالح نفسه على المؤيدين للحوثي والمتأثرين به، رغم أن للجماعة اسم قدمته به نفسها لاحقاً وهو “أنصار الله”.
وكانت حرب صعده الأولى عام 2004. وفي اتصال شهير أجرته معه قناة “بي بي سي” نفى السيد حسين الحوثي كل مزاعم الرئيس اليمني يومها لشن الحرب، وقال: “هذه الحرب التي شنّوها علينا هي بسبب مناهضتنا لأمريكا وإسرائيل… ومقاطعة البضائع وتذكير الناس بالقرآن الكريم.” وبعد أشهر من اندلاع الحرب في تموز/يونيو 2004 استشهد السيد حسين الحوثي، ليبقى جثمانه مُصادراً من قبل النظام لسنوات تسع، خيضت فيها خمس حروب ضد “أنصارالله”، قبل أن يعود “القائد الشهيد” إلى مران بتشييع مهيب عام 2013، كان بمثابة ولادة أخرى له، لتحمل المشاهد الصرخة أن تسمع إقليمياً هذه المرة.
كيف شكلت الصرخة تهديداً لأمريكا؟
ليس من قبيل الصدفة أن تحمل أولى ملازم (محاضرات) الحوثي عنوان يوم القدس العالمي. هي الأولوية التي أولاها للقضية الفلسطينية، وقد تناولها بصراحة بكونها القضية المركزية للمسلمين، مؤكداً أن اطماع الاحتلال الإسرائيلي لا تقف عند حدود فلسطين، وأن عينه على مكة والمدينة. كانت المحاضرة الأولى وما لحقها تُلخص واقع الأمة، ما تعانيه من انهزامية وضعف وتخلف وعجز، وتشخص العدو وآليات المواجهة، والسبيل لنهوض الأمة الذي وجده السيد الحوثي مبيناً في القرآن الكريم.
كأخطبوط تمتد يده إلى كل شيء كان يُصوّر الحوثي العدو. وأبعد من احتلال، هو مشروع هيمنة ونفوذ وتوسع يأتي بصورة استعمار عسكري لن يكتفي باحتلال فلسطين وحدها، بل عينه على المنطقة بكاملها. أو بصورة شركات كبرى متغولة عالمياً تتحكم بالسياسة والاقتصاد والتجارة وصولاً الى التحكم بنمط ووتيرة استهلاك الفرد في بلداننا، ومصارف تهيمن على القطاعات المالية حتى في دولنا، أو بصورة مذاهب فكرية خطفت الجماهير العربية والإسلامية. وحدود تأثير العدو تطال الإعلام العربي والمناهج الدراسية، وعن هذا التأثير يقول السيد الحوثي: “اليهود هم الذين يتحكمون في صنع ثقافتنا حتى في التحكم في تخاطبنا فيما بيننا، ومن أين جاء؟ لأن كل الأنظمة التي تحكم المسلمين هي التي تسهل هذا, وتمهد لهذا”.
ثم يسأل: “لماذا إسرائيل داخل البلاد العربية، داخل هذه الأمة – وعددهم قليل، لا يزيدون على خمسة ملايين – هؤلاء أصبحت الأمة تحت رحمتهم، أصبحت الأمة خائفة منهم، أصبحت مقهورة أمامهم.. حتى اقتصادياً، الآن العرب يخافون من أن إسرائيل ستكتسح العالم العربي اقتصادياً، وأنها تسعى للسيطرة اقتصادياً وسياسياً, أن تقود دول الشرق الأوسط. هكذا يقولون عن إسرائيل.يعني هم يعرفون أنفسهم مهزومين أمام إسرائيل، يخافون أن تقهرهم, وستقهرهم فعلاً. أليس هذا من الأشياء الغريبة؟ أليس هذا مما يدل على أن مشكلة العرب ومشكلة المسلمين هي مشكلة داخلية؟. أنهم هم قد وصلوا إلى حالة سيئة، لا يمكن للإنسان أن يتصور فظاعة هذه الحالة، لا يستطيعون أن يستخدموا حتى حاجة أمريكا لهم!”.
وفي نظر السيد حسين الحوثي فإن المنطقة غنية بالموارد والامكانيات التي تؤهلها لأن تقف بوجه أعدائها. المنطقة التي يحكم العالم من يسيطر عليها-وفق قوله- تجاهل حكامها طرح الإمام الخميني إقامة سوق إسلامية مشتركة، وفي الوقت الذي كان الالحاح من قبل ايران ايران، رفض العرب أن يكونوا متمكنين اقتصادياً وأن يملكوا قرارهم السياسي، “لماذا؟” تساؤل أراده الشهيد إثارة للعقل، استنهاضاً للوعي نحو سبل تصحيح المسار، وناحية نموذج القيادة الذي لا بد أن يأخذ بيد الأمة، شرط أن تلتف حوله وتمنحه الدعم. لقد كان الإمام الخميني في نظر السيد الحوثي هو القائد الذي خذلته الأمة.
“لقد كان الإمام الخميني نعمة على العرب لو كانوا يريدون تحرراً من إسرائيل، ولكنهم بدلاً من أن يلتفوا حول الخميني, وحول إيران ليضربوا إسرائيل, ويحرروا أنفسهم من أمريكا ماذا عملوا؟ اتجهوا هم لأن يقفوا ضد إيران وضد الخميني ليشغلوه عن أن يضرب إسرائيل، لم يتركوه وشأنه حتى ليتجه ضد إسرائيل، ثم هاهم الآن يصرخون من إسرائيل، وهم الذين حموا إسرائيل من الخميني، هم الذين حموا أمريكا من الخميني، هم الذين حموا إسرائيل من إيران، هم الذين يصرخون الآن، هم الذين وقفوا لصالح إسرائيل يوم حربها ضد إيران، حرب لا مبرر لها وتحركوا بإشارة من أمريكا ليقف الجميع في خدمة أمريكا وإسرائيل لإيقاف الثورة الإسلامية، ولإيقاف الخميني حتى تبقى إسرائيل آمنة. وهاهي إسرائيل ترد لهم الجميل…فلماذا خسر العرب تلك الفرصة العظيمة؟ لماذا ضيع العرب وحتى الفلسطينيون أنفسهم؟”.
في تساؤلاته، كان الحوثي يفكك عناصر المشهد السوداوي للأمة الاسلامية، ليوضح ما الذي جعل الأمة تصل إلى هنا، وبموازاة كل هذا الاستعراض، كان يستحضر القرآن الكريم وفق قاعدة: “عين على الأحداث وعين على القرآن”. فكان ينطلق من القرآن لتحليل الواقع، ولتحديد للعدو وآلية المواجهة. لقد كان القرآن الكريم هو نقطة المركز في المشروع الذي طرحه حسين الحوثي، ليطلق مسيرة إحياء القرآن الكريم، بعيداً عن كل القوالب الجامدة التي خلقت حاجزاً بين النص والقرآني والمسلمين أفراداً. أرادها ثقافة قرآنية لا تقتصر النخب الدينية وحسب، بل تطرق وعي كل فرد مسلم. في دراسة له يتحدث عضو الوفد الوطني التفاوضي اليمني عبدالملك العجري من خلال دراسة حملت عنوان “جماعة أنصار الله الخطاب والحركة” عن خطاب أنصار الله، الذي أسس له الحوثي موضحاً بأنه خطاب قرآني “يعيد تصحيح علاقة المسلمين بالنص القرآني، وينفي عنه الغموض والقصور الذاتي في إنتاج الدلالة وتقلص دور القارئ (الفقيه، المفسّر) إلى أضيق الحدود في تفسير وتأويل النص. بما يعيد للمعرفة الدينية بساطتها ويعالج أزمتنا الفكرية والثقافية والتشريعية والسياسية. وتضع حداً لفوضى الاجتهادات الفردية والتضخم في الحديث والرأي”. لقد هاجم الحوثي فقهاء الأنظمة الذين عمدوا إلي تقديم تفسير للنص القرآني يخدم مشروع التطبيع والصلح مع “إسرائيل”، معيداً الشرذمة التي تعيشها الأمة إلى سياسة تكييف النص القرآني لما يريده كل طرف.
كان صوت السيد حسين الحوثي أكبر من جغرافية صعدة، يتجاوز حدود اليمن. حليف القرآن كما يطيب لليمنيين مناداته، اقترن اسمه بالقرآن، فكان مشروعه رحباً واسعاً كما القرآن، كاسراً لحدود المذهبيات، جامعاً في الإطار الإسلامي. حريص في أن تكون للأمة نهضة بعد قعود دجنها على الانهزامية.
الأزمة، والعدو، والمواجهة والقيادة… كانت محاضرات السيد حسين الحوثي تفندها مرة بعد مرة. أقل من عامين، كانت كافية لأن تؤسس هذه المحاضرات لانطلاقة المسيرة، التي لم تعرف قعوداً منذ تلك اللحظات.
في الاتصال مع “بي بي سي” قال الحوثي: “نحن عبارة عن مجاميع من المسلمين”.. حروب كانت تجر مثيلاتها، تزداد عنفاً مرة بعد أخرى، أخرجت المجاميع التي كانت تردد صرخة الشهيد، لتصبح بحراً من ملايين، تهزم أعداء الداخل وتكسر شوكة الخارج، وتقارع الرب الأمريكي. عقدان من الزمن، وكأن التاريخ يعيد إلى مسامع العالم بأسره تلك الصرخة، يُنصف سيّدها ويترحم على شهدائها… ويصفع وجه العالم عل في صفعته شيء من الصحوة التي جاهد ليحييها الحوثي. وهو الذي استشرف قبل استشهاده عودة طالبان، محذراً الأمة من الرموز التي صنعتها أمريكا لتشد الجماهير نحوهم بعيداً عن القيادات الحقيقية التي تملك مشروعاً لمقارعة العدو، ليستشرف أيضاً أنه لا بد أن تبرز في هذه الأمة “قيادة تستطيع أن تبني الأمة من جديد كما استطاع الإمام الخميني” الذي لم يعرف العرب قدره.
عقدان من الزمن، ودماء حسين بدرالدين الحوثي كانت لا تزال تضخ الحياة في عروق اليمنيين، وعلى الصورة التي أرادها “الشهيد القائد” للأمة، خرجت “أنصار الله” باليمن.. ليقف العالم اليوم مذهولاً أمام نموذج كاسر لكل القواعد التي دُجنت عليها المنطقة أنظمة وشعوباً. اليمن الذي يقطع على بوابة باب المندب أحد شرايين الحياة المهمة عن “إسرائيل”، والذي يقتحم الموت مقارعة للأميركيين في البحر الأحمر فيفرون منه هم، هو يمن الصرخة التي أُطلقت عام 2002م واستمرت حتى قامت فعلاً لفلسطين باللحم الحي…فيرى العالم كيف تصنع الإرادة من العجز “قوة القوة”، هكذاً يعود صوت الشهيد السيد حسين بدرالدين الحوثي مردداً صرخته، فيسمعها العالم أجمع هذه المرة… لتكون ولادته الثالثة.
المصدر: موقع المنار