حينما تزمجر أصوات المدافع والصواريخ والبارجات الحربية ولعلعة الرصاص، تختفي الرؤية في مثل هذه الأثناء وتُحجب أمام أنظار الغالبية العُظمى من الرأي العام المحلي والإقليمي وربما العالمي. هنا وفِي لحظةٍ كهذه يتم استبدال المفردات الصحيحة من قواميس المفردات والمفاهيم العامة وتجري الاستعاضة عنها بمفردات ليس لها معنى سوى في قواميس المُحرِّفين من صناع القرار الإعلامي والأيديولوجي والمحترفين في تزييف وعي العامة من الناس، ليحشدوا لنا مفرداتٍ جديدةً تتناسب مع هوى اللحظة في المعركة الإعلامية الجديدة.
وهنا إذ يتم اعتماد الأدوات المناسبة في تنفيذ المهمة الشيطانية تكون جماعات متخصصة في علم النفس والأيديولوجيا، وفِي الدعايات والحرب النفسية، مُعدَّةً للتأثير على جمهور المتلقين من العامة، وتستند في تنفيذ المهمة على جيش محترف من الإعلاميين، أو لنقل على إمبراطوريتها الإعلامية المعروفة كي تحاصر المُتلقي من كل حدبٍ وصوب، دون أن تسمح له ولو للحظة واحدة بالتمعن والتفكير بهدوء في ما يشاهده أو يسمعه أو يقرأه. وبالتالي تتراكم لديه حصيلة هائلة من المعلومات المغلوطة والمشوهة من خلال المشاهدة اليومية والأسبوعية. وتتكرر عليه المشاهد والأخبار على هذا النحو؛ فلا يكون بمقدوره التمييز بين الغث والسمين، والصادق والكاذب من المعلومات. وهكذا تستمر الحكاية، بينما لم يعد لديه من الفطنة والوقت ما يكفي لتصحيح ما يُعرض أمامه.
هذه الحالة تنطبق تماماً على كل الأحداث التي مرت على اليمن منذُ أن شنَّ حلف العدوان بقيادة كُلٍّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حربه الظالمة على الجمهورية اليمنية في صبيحة يوم الخميس 26 مارس 2015م وحتى اليوم، مع فارق طفيف في التكتيك الإعلامي فحسب.
وبالمناسبة، فإن الآلة الإعلامية الخادعة لدول العدوان تساعدها في هذا الميدان الحربي الإعلامي مجموعة من القرارات الدولية لذوي النفوذ العالمي وهم أعضاء مجلس الأمن الدولي الذي تتساوى فيه مصالحهم المادية والجيو-سياسية مع مغزى ومدلول شن العدوان بهدف تحقيق السياسات الاستراتيجية المخطط لها مسبقاً وكذلك في حجم وقيمة الصفقات التجارية في المجال العسكري على وجه الخصوص. وهنا تزداد ضبابية المشهد على الكثيرين مِمَّن يتابعونه عن كثب.
يبدو للبعض من المتلقين للمادة الخبرية بأن المشهد الحقيقي في السياسة العامة هو ذاته ما يتم رسمه من خلال ما يعرض من مشاهد المفردات الإعلامية، وهي للأسف مشاهد غامضة ومُضَلِّلة تحجب العديد من خيوط وعناصر جوهر المخططات المستقبلية ذات النفوذ الإقليمي والدولي.
لم يعد خافياً على أحد ذلك الصراع الخفي والمعلن بين الدولتين المحوريتين في الإقليم وهما المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ انتصار الثورة الإيرانية بقيادة الإمام آية الله الخُميني في فبراير 1979م والناتج عن خوف المملكة من نظرية تصدير الثورة لأن مشروع وفكر الثورة هو على النقيض من سياسات وجوهر الحكم في المملكة السعودية ومن خلفها مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الرأسمالي كله.
من هنا بدأ التحول ونشأ التناقض بين نهجين متعارضين, فالسعودية هي امتداد للمصالح الحيوية للدول الغربية الاستعمارية بقيادة أمريكا؛ بينما كانت الجمهورية الثورية الإسلامية الإيرانية قد أعلنت منذ اللحظة الأولى لقيام ثورة المظلومين فيها عن عدائها الصريح لنظام الشاهنشاه محمد رضا بهلوي الحليف القوي للدول الغربية وأهمها الولايات المتحدة الأمريكية، والذي قامت الجمهورية الإسلامية على أنقاضه. وهنا جذر القضية برمتها وأساس معادلة الصراع الحقيقي بين النظام السعودي وهو امتداد للمصالح الغربية للدول الرأسمالية الاستعمارية، والنظام الثوري الجديد الذي يتناقض كلياً مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية بجميع سياساتها ومصالحها بما فيها الحفاظ على الكيان الإسرائيلي الصهيوني بوجهٍ خاص.
من هذه المنطلقات الموضوعية في التناقض الحاد بين المشروعين الاستراتيجيين في المنطقة بدأ التسابق المحموم في التسلّح وكسب المزيد من الحلفاء بالمنطقة وعلى مستوى العالم، وهذا أمر يتفق مع فهم كل فريق لمصالحه واستراتيجياته المستقبلية. وللتذكير فحسب، فإن السعودية قد حاربت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بشراسة من خلال دعم النظام الوطني العراقي بقيادة الرئيس صدام حسين في حربه الضروس ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي دامت ثمان سنوات عجاف (سبتمبر1980م-أغسطس1988م) وكانت دول مجلس التعاون الخليجي جميعها -باستثناء سلطنة عُمان- قد ساندت العراق بجميع الإمكانات والوسائل، وخسر طرفا النزاع من الشعبين الشقيقين العراقي والإيراني جراء تلك الحرب مئات الآلاف من الضحايا، ناهيكم عن الخسائر المادية في البلدين.
وللتذكير أيضاً، فقد كان من أوائل قرارات القيادة الجديدة في إيران بعد انتصار الثورة، قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين، وتم فِي ذات الوقت إغلاق سفارتها في طهران وتسليمها سفارةً للشعب العربي الفلسطيني بقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها الشهيد ياسر عرفات.
في مبدأ التقاء وتناقض المصالح لا يقف الموقف البراجماتي للدول خلف ما يحدث بشكل عرضي أو تلعب الصدفة وحدها في تحديد مسار المعادلة السياسية؛ بل تحكمها أسـس الشراكة الاستراتيجية العميقة بين الدول التي تختبرها الأزمات الحادة المهددة لأسس تلك الشراكة.
هنا يستطيع المشاهد والقارئ اللبيب فهم قول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في معرض دفاعه المستميت عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حادثة مقتل الإعلامي السعودي جمال خاشُقجي في قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول؛ حيث قال: (إذا نظرتم إلى إسرائيل، فإن إسرائيل ستكون في ورطة كبيرة من دون السعودية)! قالها الرئيس دونالد ترامب بمفردات رجل الأعمال غير المسيَّس في يوم الخميس بتاريخ 21 نوفمبر 2018م، وأردف بالقول: السعودية حليف استراتيجي موثوق لأميركا، وتؤمِّن لنا فرص عمل كبيرة في السوق المحلي وتعمل على تخفيض أسعار المشتقات النفطية في السوق العالمية.
هنا تتبيَّن الصورة بشكل أوضح من ذي قبل، فحينما تضع الولايات المتحدة الأمريكية جميع حركات مقاومة العدو الإسرائيلي ضمن قائمتها باعتبارهم حركات (إرهابية)، كحزب الله في لبنان، وحركة حماس، وحركة الجهاد الفلسطينيتين وقبلهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما تضع جميع حركات المقاومة في العراق وسوريا واليمن ضمن التصنيف المتسـق مع مصالح إسرائيل وحلفائها بالمنطقة، فإنها بذلك تجعل من دولة الاحتلال الصهيوني معياراً واضحاً في التفريق بين من هو مع مشروعها الأمريكي المُتصهين و بين من يقاوم الاحتلال الإسرائيلي من أجل تحرير الأرض الفلسطينية المُغتصبة منذ سبعين عام.
وهنا نعود إلى موضوع تبديل المصطلحات والمفردات في محاولةٍ مفضوحةٍ للضحك على الجمهور العربي والإسلامي المتلقي، كتوصيف المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بالإرهاب، ووصف العدو الصهيوني المحتل بالصديق، والشعب الإيراني المسلم الشقيق بالشعب الفارسي الرافضي المجوسي.. وهكذا يستمر التزييف الإعلامي الموجه.
وحتى في ما يتعلق بالقتل والتجويع عبر الحصار والعدوان على الشعب اليمني، تجد أنهم يصطنعون من تلك المفردات أداة للتغطية على جرائمهم الوحشية بحق هذا الشعب. ولولا الحادثة المأساوية التي حدثت للإعلامي السعودي جمال خاشُقجي رحمة الله عليه وما اتهمت به المملكة السعودية وولي عهدها من ضلوع في ارتكاب جريمتها، ومن أجل التخفيف عليها من وطأة وضغط التغطيات الإعلامية العالمية، لما سمع العالم بأن المملكة العربية السعودية وحليفتها الإمارات العربية المتحدة هما من يشن الحرب العدوانية على الشعب اليمني ويحاصره في معيشته ودوائه واحتياجاته ويغلق في وجهه مطار صنعاء الدولي الحيوي ويسعى لتدمير وإغلاق ميناء الحديدة. هكذا وخلال شهرين فحسب امتنعت معظم دول العالم الصناعي المصدرة للأسلحة والذخائر عن تزويد دول العدوان السعودي الإماراتي بصادراتها تلك التي تسببت في قتل أطفال ونساء وشيوخ اليمن على مدى أربعة أعوام تقريباً.
الخلاصة: لم يعد حكام المملكة السعودية تحديداً ضالعين في إزهاق أرواح اليمنيين وإهدار دمائهم الزكية فحسب.. لا لا لا؛ بَل إنهم ضالعون كذلك في تمويل وتدبير مشروع تدمير كلٍّ من العراق العظيم وسوريا العروبة وليبيا الحرة، وفي إزهاق أرواح الجزائريين الأحرار في ما سُمي بالعشرية السوداء لبلد المليون والنصف مليون شهيد؛ كما إنها ضالعة حتى النخاع في بيع أرض فلسطين من خلال الدعم والإسناد والتطبيع مع كيان العدو الصهيوني منذُ أن زُرعت وحتى لحظة كتابة مقالنا هذا.
تصوروا أن مصدر كل هذه الشرور يأتي من أرض الحرمين الشريفين والأراضي الإسلامية المقدسة! فما الذي ستقوله الأجيال العربية الإسلامية المتعاقبة في العالم أجمع عن تلك الوقائع المخزية والمؤلمة والحزينة؟!.. والله أعلمُ مِنَّا جميعاً.
وفوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم
*رئيس وزراء حكومة الإنقاذ