هل ستنجح “إسرائيل” في ما أخفقت فيه الولايات المتحدة وتحالف “حارس الازدهار” في البحر الأحمر، وقبلها السعودية و”التحالف العربي”، في إضعاف أنصار الله وإسهامهم في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة؟
ربما يحسن التوقف بدايةً عند المحطات الآتية:
المحطة الأولى: في عام 2004، ظن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أنه تخلص من جماعة “الشباب المؤمن” بقتل قائدهم السيد حسين بدر الدين الحوثي. وأدرك متأخرًا أن ما فعله أوقد نهضة أشد اتساعًا لما عُرف لاحقًا بـ “أنصار الله” الذين سيطروا على محافظات عدة تباعًا، قبل أن يصلوا إلى العاصمة خلال ثورة 2011 ويسيطروا عليها فعليًا في أيلول/سبتمبر 2014.
المحطة الثانية: قامت السعودية ليل 25 – 26 آذار/مارس 2015 بحملة قصف جوي لأبرز مواقع أنصار الله، في مستهل حرب أطلقت عليها اسم “عاصفة الحزم” لإخراج أنصار الله من العاصمة اليمنية وإجبارهم على الاستسلام. أدركت السعودية متأخرة أن الحملة التي دامت تسع سنوات ونيف إلى اليوم رسّخت قدرات أنصار الله وسيطرتهم المتفردة على صنعاء ونصف مساحة اليمن تقريبًا، ولو أنهم فقدوا مناطق في الجنوب لا يمتلكون فيها حاضنة شعبية واسعة.
المحطة الثالثة: بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاء آخرون في 11 كانون الثاني/ يناير 2024 حملة قصف جوي لمواقع أنصار الله، ردًا على عملياتهم التي بدأت في 19 تشرين الاول/ أكتوبر 2023 ضدّ مواقع في الكيان الصهيوني وفرضهم حظرًا على مرور السفن “الإسرائيلية” في البحر الأحمر في سياق التضامن مع قطاع غزّة. وقد حوّلت هذه العمليات أنصار الله إلى قوة إقليمية يُحسب لها حساب. واعترف الجيش الأميركي متأخرًا بأنه “أخفق في ردع الحوثيين”.
المحطة الرابعة: دخلت “إسرائيل” على الخط في 20 تموز / يوليو 2024 وقامت بقصف منشآت مدنية في ميناء الحديدة اليمني الساحلي، بعد انفجار مسيّرة يمنية في “تل أبيب” فجر الجمعة 19 الجاري. وكعادة كلّ من سبقوا، استعجلت “إسرائيل” في استنتاج أن الحساب قد أُغلق مع “أنصار الله”، وسيتعين عليها أن تنتظر الأيام لكي تخلص إلى النتيجة التي سبقها إليها مَن قاتلوا اليمن.
تعاظم قدرات “أنصار الله”
تفيد التجارب السابقة بخلاصة هامة جدًا، وهي أن كلّ قوة إقليمية أو عالمية تصدّت لأنصار الله اليمنيين عسكريًا لم تتمكّن من إخضاعهم أو تحقيق أي من أهدافها المعلنة. على العكس:
– تمكّن أنصار الله من توسيع نطاق سيطرتهم أو تأثيرهم في البر والبحر، وقد خرجوا أكثر قوة وأشد تصميمًا من أي وقت مضى بفعل عقيدتهم الجهادية وتماسكهم التنظيمي والتسليم لقيادتهم وتبنّيهم لمطلب التحرر من قوى الهيمنة الإقليمية والدولية، إضافة إلى علاقاتهم القوية مع النسيج الاجتماعي القبلي.
– تمكّن أنصار الله في كلّ حرب خاضوها من التزود بأسلحة جديدة تتلاءم مع التحديات التي يواجهونها. فكلّ تجربة قتالية جديدة أتاحت لهم التعرف على سبل تجاوز فعالية منظومات الأعداء العسكرية وترقية قدراتهم وتسجيل إنجازات إضافية، ليس أقلها استخدام أساليب وأسلحة متطورة (الصواريخ الباليستية، صواريخ الكروز، الطائرات المسيّرة، والزوارق المسيّرة) في الحرب البحرية أرهقت القطع الحربية الأميركية فاضطرتها إلى الابتعاد عن شواطئ اليمن لمسافات بعيدة. وقد فرض أنصار الله قرارهم بتحريم مرور السفن “الإسرائيلية” أو المتعاونة مع “إسرائيل” في البحر الأحمر، فاضطرّت إلى سلوك طريق أطول وأكثر كلفة عبر رأس الرجاء الصالح، كما تعطل دور ميناء “إيلات” الرئيسي الواقع على البحر الأحمر. ولم تنجح البحرية الأميركية في حماية السفن في البحر الأحمر، كما لم تنجح السعودية من قبلُ في حماية منشآتها النفطية وقواعدها العسكرية من الهجمات اليمنية، وقبلهما لم ينجح علي عبد الله صالح في محاصرة أنصار الله في معاقلهم الجبلية.
اليمن و”إسرائيل”: وجهًا لوجه
في الحديث عن دور جبهة الإسناد اليمنية المستمرة منذ تسعة شهور، لا بد من الإشارة إلى نقاط تحكم أداء هذه الجبهة:
– توجد فجوة جغرافية واسعة بين فلسطين المحتلة واليمن ناجمة عن طول المسافة الفاصلة بين الجهتين، وهذا له أثر لا يُنكَر على سخونة هذه الجبهة. وتتطلب صواريخ اليمن ساعات للوصول إلى فلسطينال محتلة، كما أنها قد تُكتشف من قبل أجهزة الرادار الأميركية والحليفة، مما يسهّل التصدي لها. غير أن المسيّرات الجديدة التي دخلت المعركة ابتداءً بـ “تل أبيب” لا توجد بصمة رادارية لها وتمثل تحديًا أمنيًا لجيش العدو. وهذا التطور سيكون له أثر معنوي كبير على المجتمع الصهيوني، ذلك أن نجاح مسيّرة أخرى في الوصول إلى هدفها سيكون بذاته إعلانًا عن فشل الإجراءات التي أعلن العدوّ عن اتّخاذها بعد العملية الأولى، وسيُدخل الكيان الصهيوني في أجواء قلق حول فاعلية الدفاعات الجوية والسلاح الجوي في التصدي للخطر الجديد، وهو الأمر الذي دفع للحديث “إسرائيليًا” عن “7 أكتوبر جديد” يتعلق هذه المرة بالدفاع الجوي. ويلقي الفاصل الجغرافي عبئًا على سلاح الجو الصهيوني الذي سيكون عليه أن يخصص موارد كبيرة في كلّ غارة على اليمن بما يتضمن توجيه عشرات الطائرات الحربية للإغارة والدعم والاعتراض وطائرات تزويد بالوقود، وهذا سيؤدي إلى إنهاك سلاح الجو.
– تتيح الطبيعة الجغرافية الصعبة والممتدة في اليمن، إخفاء الأصول العسكرية الثمينة من صواريخ ومسيرات طويلة المدى، ما يصعّب على أي سلاح جو القضاء عليها، وهذا ما حصل مع الطيران الأميركي والطيران السعودي ومن شاركهما في الحروب المتعددة الماضية. وهذه الميزة تلعب لمصلحة اليمن في إدارة حرب استنزاف طويلة كان الرهان عليها صائبًا إلى اليوم. وإذا كانت غزّة المحدودة المساحة وذات الطبيعية المسطّحة والرملية والتي تقع ضمن مرمى النار “الإسرائيلية” المباشرة قد استعصت على سلاح الجو الصهيوني، فكيف سيكون الحال مع اليمن البعيد وذي الطبيعة الجبلية المترامية المساحات؟
– يمكن القول إن أنصار الله – بحسب التجارب التي ذكرناها آنفًا – ليسوا من النوع الذي يتراجع عند الضربة الأولى الموجهة ضدّهم مهما كانت قوية، وهم يملكون قدرة على ترميم خسائرهم والانتقال من الدفاع إلى الهجوم، كما أن لديهم تصميمًا على تنفيذ ما يرونه مناسبًا وتحقيق أهدافهم مهما بلغت التضحيات، خاصة إذا كان الموضوع يتصل بعقيدتهم في قتال اليهود الصهاينة. الآن، وقد أصبحوا وجهًا لوجه مع الكيان الصهيوني، ستكون هذه فرصتهم في تتويج دورهم الجهادي على مستوى الإقليم. ويمثل العدوان “الإسرائيلي” على منشآت ميناء الحديدة سببًا إضافيًا لكي ينخرط أنصار الله على نحو أكبر في المواجهة الدائرة إسنادًا لفلسطين.
– على غرار الدول الإقليمية والكبرى التي نازلت اليمنيين في السنوات الماضية واعترفت بعجزها لاحقًا، سيكتشف “الإسرائيليون” أنهم استعجلوا في إعلان الانتصار بعد الغارة الجوية على منشآت مدنية في ميناء الحديدة. وإذا كان العدوّ يتوعد بأنه سيشن المزيد من الضربات ضدّ اليمن في حال رد أنصار الله على الغارة “الإسرائيلية”، فإن “الأنصار” ليسوا ممن يتوقف عند التهديد من جانب قوة تقع على بعد ألفي كلم من حدود أراضيهم، وهم في الأصل لم ترهبهم الأساطيل الأميركية والغربية الرابضة عند شواطئ بلادهم ولا “التحالف العربي” الذي قادته السعودية على حدود اليمن. علمًا أن الكثير من الأعيان المدنية قُصفت ودُمرت في الحرب على اليمن منذ عام 2015. والسؤال الإضافي الذي يُطرح هنا: ما هي الأهداف العسكرية اليمنية التي تعرفها “إسرائيل” ولا تعرفها الولايات المتحدة التي تمسح اليمن عبر طائرات الرصد والاستطلاع منذ فترة طويلة؟
باختصار، ليس في وسع “إسرائيل” تحقيق انتصار عسكري في اليمن، لكن في وسع القوات اليمنية التسبب بأضرار كبيرة لأمن الاحتلال. ومن شأن تدحرج الأحداث على جبهة الإسناد اليمنية أن يحوّلها إلى جبهة رئيسية تستنزف كيان الاحتلال في عمقه الآمن (“تل أبيب” والمحيط) وتكشف ضعف دفاعاته ومحدودية كفاءة قدراته الهجومية. وربما لذلك، اختار العدوّ منشأة نفطية في الحديدة يُبرز اشتعالُها الحاجة الماسّة إلى مفعول إعلامي ونفسي.
العهد الاخباري: علي عبادي