الفارق بين التفاوض على صفيح ساخن الذي كان عنوان المرحلة السابقة منذ طوفان الأقصى، واللعب على حافة الهاوية كبير ومتعدد الوجوه. ومخطئ مَن يعتقد بسهولة السيطرة على مسارات اللعب على حافة الهاوية ومنع الانتقال إلى حرب تخرج عن السيطرة، لأن هذا الانتقال من التفاوض على صفيح ساخن إلى اللعب على حافة الهاوية يتمّ بسبب عجز أحد طرفي الحرب عن الانضباط بقواعد تسخين الصفيح بصورة تتناسب مع التفاوض، والانتقال إلى استخدام قاذفات اللهب وبحال من الهيستيريا والغضب، بعدما بات على يقين بأن معادلة التفاوض وموازينها تنتج هزيمة كاملة ولم يعد يهمه أن يخاطر بقلب الطاولة وفق معادلة “عليّ وعلى أعدائي”، آملاً أن يتقبل أعداؤه أقلّ مما كان يمكنهم تحقيقه وفق موازين التفاوض، تفادياً لبلوغ مرحلة حرب الدمار المتبادل.
في التفاوض على الصفيح الساخن، جبهات فيها جيوش وتمارين حربية لإثبات لمن اليد العليا فيها، والميدان يقدّم وقائع في حصيلة مسارات زمنيّة تفرض حضورها في المفاوضات. ووفق هذه القاعدة لم يعد هناك التباس حول وجهة اختبارات الميدان في جبهات غزة ولبنان واليمن، حيث في جبهة غزة المقاومة تمسك بزمام المواجهة وجيش الاحتلال إلى تراجع، وقد فشل في القضاء على المقاومة وفشل في استرداد الأسرى. وفي جبهة لبنان تهجير للمستوطنين وإيقاع حربي بري وجوي ناري لصالح المقاومة، بينما على جبهة اليمن توقف كامل لعبور السفن إلى موانئ الاحتلال عبر البحر الأحمر وصولاً إلى شلل تام في ميناء إيلات (أم الرشراش)، والحصيلة أن الترجمة التفاوضية لهذه الحقائق تعني تسليم الاحتلال بشروط المقاومة لوقف النار، وهي شروط تبدو بصراحة متواضعة قياساً بحجم الحرب والتضحيات والإنجازات، لكن قيادة الكيان تأخذ رمزية اليد العليا وتقيس عليها تداعيات يبدو أنه من الصعب السيطرة عليها بمجرد وقف الحرب، ويمكن لها أن تشكل تدحرجاً للمأزق الوجودي والسياسي والعسكري للكيان نحو الخروج عن السيطرة.
الانتقال إلى اللعب على حافة الهاوية يدمج الحرب الوجودية للكيان بحرب طوفان الأقصى، التي حددت المقاومة سقفها بتبادل الأسرى وفك الحصار، أي أن بنيامين نتنياهو ومَن معه ومَن خلفه، وتبدو أمريكا خلفه بوضوح هذه المرّة، يقرأون في موازين القوى الناجمة عن انتصار تكتيكي للمقاومة بحجم مطالب غزة، على خلفية نتائج الطوفان وما فعلته جبهات اليمن والعراق ولبنان، بداية مسار انحداري يصعب منع التدحرج منه إلى الانحلال والتفكك في وضع الكيان، ويصبح تفادي هزيمة تكتيكية في مسألة وجودية بحجم قرار استراتيجي بالمخاطرة بحرب كبرى قد تخرج هي أيضاً عن السيطرة.
المعادلة التي يرسمها اللعب على حافة الهاوية، كما قالت عملية طهران وعملية بيروت، إن على إيران والمقاومة في لبنان منح الكيان فرصة نصر استراتيجي تفادياً للحرب ومقابل قبوله بمنح المحور مجتمعاً فرصة نصر تكتيكي. والكيان يقول إنه دخل مرحلة لم يعد لديه ما يخاف أن يخسره وهو جاهز للمخاطرة بالحرب، سواء أكان هذا القول صدقاً أم كذباً، وإنه جاهز للمجازفة بهذه الحرب التي تخرج عن السيطرة، وإنه إذا أرادت إيران والمقاومة في لبنان تفاديها فعليهما التراجع ببساطة والانهزام بلا تردّد، وإلا فإن الحرب ستقع، والدمار سوف يكون على طرفي المواجهة. وهنا يطل الأمريكي برأسه ويقول إنه مستعدّ للتدخل إذا سُحب مطلب انسحاب قواته من العراق وسورية من التداول.
الجواب وفقاً لكلام الإمام السيد علي خامنئي والسيد حسن نصرالله، فإن قرار إيران والمقاومة في لبنان قد اتخذ وهو الردّ بما يتناسب مع خرق الخطوط الحمراء باستهداف عاصمتي لبنان وإيران وتنفيذ عمليتي اغتيال كبيرتين فيهما، أي ارتكابه لجريمتين بحق كل عاصمة ما يجعل الجمع أربع جرائم، وواحدة من هذه الرباعيّة تكفي لإشعال حرب. والقرار بالرد المناسب والموجع والقاسي، يعني قبول التحدّي، إذا كان التأقلم مع تجاوز الخطوط الحمر تفادياً للحرب هو المطلوب، فليكن مطلوباً من الكيان، لأن إيران والمقاومة تردّان على تجاوز الخطوط الحمر بالمثل، وتدرك إيران والمقاومة أن هذا يجعل الحرب أقرب، لأن مَن لم يستطع تحمل نتائج هزيمته التكتيكية والتأقلم معها تفاوضياً في مرحلة الصفيح الساخن، يصبح من الصعب عليه تحمل صفعات استراتيجية بحجم تلك التي يتم تبادلها في اللعب على حافة الهاوية.
لم يقل السيد نصرالله أردتموها حرباً مفتوحة فلتكن حرباً مفتوحة، لكنه قال سوف نرد بما يؤلم ويرد الاعتبار لقواعد الاشتباك ويظهر كلفة تجاوزها، فإن قرّرتم الرد على الرد سوف نبقى نردّ بالمعيار ذاته، نردّ بما يؤلم ويرد الاعتبار لقواعد الاشتباك ويظهر كلفة تجاوزها، وهذا يعني أنه يقول إن أردتموها حرباً مفتوحة فلتكن حرباً مفتوحة.
* رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية