تمر الذكرى الثانية والخمسون لجلاء آخر جندي بريطاني من جنوب الوطن بعد أن جثم على صدر الجنوب قرناً ونيفاً من الزمان , تمر هذه الذكرى ويكاد التاريخ أن يعلن عن تكرار نفسه في واقعنا كعادته في كل مساره منذ بدء الحركة على كوكب الأرض إلى اليوم , فهو قد يبدأ في صناعة حركته وواقعه ثم يتوارى ثم يعود على شكل مأساة ثم يتوارى ثم يعود على شكل ملهاة ومهزلة.
وها هو اليوم في عدن يتكرر على شكل مهزلة تبعث الغصص وتعيد الى الأذهان حكايات ذلك الماضي وتبعث القصص المأساوية من مراقدها التي لاذت بها في زمن التأمل والتبصر أو زمن محاولة النسيان التي يتقنها العرب دون سواهم، ذلك لكون العرب من جنس بشري لا يتعامل مع قضايا التاريخ إلا من باب البطولة المتخيلة , والمتخيل عند العرب مكون أساسي للمادة التاريخية وهو جوهر في الحدث، أي جوهر مواز وليس حقيقة الحدث .
دبّ الضعف والوهن في جسد العرب بعد سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م ومنذ ذلك التاريخ تنازعتهم البطولات المتخيلة بعد أن أصبحوا أحزابا وشيعا لا ملاذ لهم إلا فن الحكايات كي يشعروا من خلاله بتعويض وجداني يملأ دوائر التكوين في أنفسهم , وابتكروا أدوات فنية وأساليب بلاغية جديدة كانوا يتبارون من خلالها في حالة دالة على النكوص واستغوار كوامن الذات المهزومة من واقعها .
عاش العرب حقباً طويلة في التيه والضياع وكان الغرب يقرأ إرثهم الثقافي والحضاري ويعيد بعثه واتخذ منه قاعدة للنهوض وقد امتاز عصر النهضة في أوروبا بحركة مجتمعية شاملة في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وفي الفنون وانفتح على الثقافة العربية واليونانية والرومانية في محاولة لاكتشاف أنفسهم من جديد بعد أن عاشوا عصورا من الظلام، وهو ما يسمونه بعصور الظلام أو العصور الوسطى بعد سقوط الامبراطورية الرومانية .
لقد شكل تدهور الأنظمة الامبراطورية في أوروبا منذ القرن الثاني عشر الميلادي حالة موازية رافضة ومتشبثة بالوجود أفضت الى ظهور فكرة التنظيم للمجتمع بشكل يسمح بالنهوض والتطور , وكان لظهور الحركة الفكرية الانسانية والتي كانت معاصرة لظهور اللغات الوطنية ويقال أنه بسبب سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين وانتقال العديد من علماء الدولة البيزنطية المنهزمة الى ايطاليا حاملين معهم المعارف القديمة مع ما صاحب ذلك من نشاط فكري وثقافي يُعلي من قيمة الانسان وكرامته الأمر الذي خلق الضرورة السياسية للانتقال من عصر الظلام إلى عصر التنوير .
خلال هذه المرحلة عاش العرب عصور ظلامهم وامتد بهم الزمن الى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وكانوا في عصور ظلامهم بيد صناع عصر التنوير وعصر النهضة الصناعية وأصبحت بلاد العرب بيد المستعمر ولم يفق العرب من غفوتهم إلا بداية القرن العشرين وبدأت حركة التحرر في القرن العشرين وتحديدا في النصف الثاني من القرن العشرين كثمرة من ثمار النهضة الفكرية التي أعادت للغة معناها وقيمتها وللآداب والفنون منزلتها الرفيعة وللفكر قيمته، لكن العرب بعد حركة النهضة ومن ثم التحرر من نير المستعمر خضعوا لثنائية الهيمنة والخضوع ومورست على عقولهم ونفوسهم أشد عوامل الإذلال والقهر والتقهقر والشعور بعقدة النقص من خلال حالة التفوق الصناعي والفكري والتقني الغربي ومن خلال المستوى الحضاري الذي وصل اليه الغرب ومستوى الحقوق الإنسانية للجنس البشري والاهتمام بالحاجات البيولوجية حفظا لكرامة الإنسان وقيمته .
لم يغادر المستعمر الديار العربية إلا وقد ترك يداً فيها تعمل لصالحه، ولذلك ظل يدير مصالحه بقدرة عجيبة في المنطقة من خلال أدواته ومن خلال حراس النفط في الخليج العربي , فقد كان حراس النفط يديرون حرب الرأسمالية ضد الاشتراكية , ثم عملوا على القضاء على حركات التحرر في الوطن العربي كالناصرية ومن ثم الاشتراكية والحركة القومية البعثية وساهموا في سقوط بغداد عام 2003م، وهو السقوط الذي يتكرر في مسار التاريخ على هيئة مهزلة.
لم يكن سقوط بغداد سقوطاً عفوياً ، بل كان عن تخطيط وسبق ترصد وإصرار ووفق خطط استراتيجية تدرك قانون التاريخ وتعيه وتدرك مساره وأثره في بلوغ الأهداف، ولذلك كان السقوط الأول عام 1258م تشظيا وحركة انقسامات في البناء الرأسي والأفقي للأمة تكررت أحداث التاريخ الهازلة على ذات النسق , إذ شكل سقوط بغداد الجديد في عام 2003م ذات الغاية والهدف، وها هو الاستعمار يعود من جديد وبدأ الضعف يدب في جسد الأمة الثقافي من حيث تعويم المصطلحات وغياب الرؤية ومن حيث التطبيع والقبول بالكيان الصهيوني الغاصب ومن حيث التفكيك للبناءات الثقافية المقاومة لفكرة المستعمر الجديد .
اليوم حركة الفوضى كادت أن تعم الشارع العربي بدون رؤية واضحة بل لمجرد الفوضى في ذاتها، ومثل ذلك دال على حالة التيه التي يعيشها المجتمع العربي، وفي السياق يجد المستعمر مساحة مريحة للتحرك وتنفيذ أجنداته , ذلك أننا حين خرج المستعمر من ديارنا لم نتجه إلى التفكير والمراجعة والنقد بل صنعنا تاريخا متخيلا وبطولات واهمة عاد المستعمر من بين مساماتها .
ولذلك ونحن نعيش مهزلة التاريخ اليوم في عدن بعد أن عاد وأحكم سيطرته على الجزر والمنافذ نقول نحن بحاجة الى نهضة فكرية وأدبية وفنية حتى تستعيد الذات كينونتها المسلوبة وتعيد ترتيب نسقها لا سبيل لنا ونحن نعيش تيها وضياعا إلا بنهضة فكرية وصحوة من غفوتنا .