ثمة ظاهرة تبرز في حياتنا وتحاول تأصيل نفسها كنسقٍ يأخذ حكم العادة والعرف, دون أن نوليها القدر الكافي من القراءة والتمحيص, وذلك قبل أن تفسد في حياتنا ما نحتاج إلى إصلاحه على الأمد الطويل.
من تلك الظواهر التي بدأت تتشكل وتتمظهر في حياتنا , ما نلاحظه من الانفلات الأخلاقي وعدم تقدير المسؤولية أو استخدام المسؤولية لتصفية الحسابات مع الآخر , ولعل أشد أولئك وطأة بروز الذات وتمظهرها وغياب الموضوع / الوطن من كل شيء وفعل وسلوك وممارسة .
وإذا كنا نلحظ بروز الذات كخيار سايكولوجي منذ هابيل وقابيل كفناء وإلغاء في مقابل التضخم… إلا أن هناك ثمة وازعاً تواضع الناس عليه وأصبح ضابطاً أخلاقياُ وربما شرائعياً أو عرفياً حدَّ بقدر ما من تسلط
(الأنا) وتجبرها في محاولة إلغاء الآخر, ومع تماهي مثل ذلك الضابط وذوبانه في المفاهيم الغائمة, تصبح الحياة غابة لا يمكث الأضعف فيها إلا أمداً قصيراً, لأنه واقع تحت أنياب الأقوى الذي تسيطر عليه أدوات الشر ومظاهر القوة فيعيث في الأرض فساداً .
وإذا كنا ننكر على الآخر تسلطه وطغيانه, وربما جبروته , إلا أن المنكر قد لا يتورع عن ذات الفعل والسلوك إذا توفرت له الدوافع والأسباب وتهيأت له المناخات, ذلك لأننا نصدر عن طبيعة واحدة, وربما أحدثت البيئة الثقافة في عوالمنا النفسية ذات الاتجاه, ولو كان مخزوناً في لحظات معينة لأسباب موضوعية في اللا وعي , ولعل مثل هذه الحقيقة قد أدركها المتنبي مبكراً حيث قال :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم ُ
إذن فالمعادلة الأصعب تبدو في النفس كقوة قاهرة ومقهورة , ظالمة ومظلومة , متسلِّطة ومتسلَّط عليها, وبحسب ما يتهيأ لها, أو يقع تحت نطاق رعايتها, وقد تتفاوت المراتب والظواهر من بيئة مجتمعية إلى أخرى تبعاً لمراتب الوعي والمناخات الثقافية السائدة, بيد أن المجتمعات البدائية أقرب إلى الصراع الهابيلي والقابيلي, حيث أن فناء الآخر يصبح مطلباً غرائزياً , إذ أنها لا تتعامل مع البدائل التي تشبع الغريزة, وترفض الفناء كمطلق, كما يحدث في بعض الأنظمة التي جاءت من عمق النسق الثقافي والاجتماعي وتوافقت مع المكون التراكمي والثقافي وأصبحت تعبيراً عنه لا طارئة عليه، وبذلك يحدث ما يشبه الانسجام والتلاؤم بينها وبين أفراد شعبها , وقد نلاحظ احترامها لهويتها التي درجت عليها دون تمايز أو طبقية, وربما كانت على تناقض تام مع الأنظمة الثورية التي ترى في الآخر ضداً مهدداً لوجودها , فكان تعاطيها مع مفردات الواقع وفق الفكر الوجودي الهابيلي والقابيلي, وبذلك فإن الصراع كان سمة غالبة تجلى ذلك الصراع في شعور الآخر بتهديد هويته الثقافية وطغيان الآخر وتسلطه وبمغايرته للنسق الثقافي الجمعي التراكمي، فكان وجود التنظيمات السرية تعويضاً للذات أو انتصاراً لمقدراتها وتاريخها, ويمكن قياس ذلك على الحالة اليمنية منذ النصف الثاني للقرن الماضي وحتى الآن.
إذ أن النظام الثوري لم يأتِ كضرورة اجتماعية أو ثقافية بل كان طارئاً , وأحدث تصادماً مع القيم الاجتماعية والثقافية, فكان صراع السبع السنوات الذي أعقب الثورة صراع هوية ووجود, وانتهى ذلك الصراع بشعور القوى الثورية بالانكسار , مما عزز لديها الشعور المضاد لتلك الحالة الانكسارية, ليفضي ذلك الشعور إلى حركة 13 يونيو 74م التي لم تستمر كثيراً إذ تم وأدها في 11 أكتوبر 1977م من قبل ذات القوى التي رأت فيها تغايراً يهدد وجودها على مسرح الحياة, وظل مثل ذلك الصراع قائماً تجلى في مقتل أحمد حسين الغشمي ومحاولة الانقلاب الفاشلة في أكتوبر 1978م على الرئيس علي عبدالله صالح, وفي الفوضى واللا إستقرار الذي أحدثته الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى, كما تجلَّى في الصراع على الحدود بين شطري الوطن حينذاك ,ومثل ذلك أو قريب منه حدث في جنوب الوطن وإن كان يأخذ غطاءات متعددة أخرى, بسبب ما أحدثه الاستعمار من تحوّل في البنى الاجتماعية وانزياح في الوعي .
بعد حركة ( 13 يونيو 74م ) أدرك أحد طرفي النزاع أهمية المؤسسة العسكرية في إحداث التحولات, فحاول التغلغل في نسجيها العام وبنى تحالفات استراتيجية مع بعض قادتها ,الذين كانوا أقرب إليه ميولاً وفكراً, وكان من نتائج ذلك التحالف ما حدث في (11 اكتوبر 77م ) الذي شكل ملامح سلطة (17يوليو 78م ).
جاءت سلطة 17يوليو من بين أنقاض الثورة, ومن بين ركام الماضي.., ووجدت نفسها بين نقيضين لا يلتقيان , وشكَّل هاجس الخوف لديها من تجارب الماضي القريب بداية مرحلة جديدة قائمة على مبدأ التوازن والاستغراق في الكل, كما تجلَّى ذلك في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي, حين تأسيس المؤتمر الشعبي العام كمظلة سياسية تجمع تحت ظلالها كل النقائض والاشتات .
تمظهرت سلطة ( 17 يوليو) بالثورية., وسمحت للقوى المضادة لتلك الثورية بالمرور والتغلغل في النسيج العام للدولة , فانتهت ثورية النظام بوقوعه تحت مطارق الضغط للقوى المتحالفة معه .
وبقليلٍ من التأمل في البدايات الأولى لسلطة (17 يوليو) نلحظ حجم الصراعات المؤلمة والدامية التي واجهتها, سواء ما كان منها في حدود شطري الوطن ,أو ما أحدثته الجبهة الوطنية من إقلاق للأمن والسكينة العامة , إذ كاد التنازع بين القوى المتضادة المسنودة خارجياً ممن يماثل أيديولوجيتها أن يودي بمقدرات هذا الوطن… ذلك لأن دائرة الصراع لم تعد ذات صبغة وطنية محضة , إذ امتدَّتْ بين المضاد المماثل فيما هو أعمُّ وأشمل وكان اليمن مسرحاً لها .
نتج عن ذلك الصراع إقصاء حكومة عبدالكريم الارياني التي كانت مقبولة من طرف في الصراع, ولم تكن مقبولة من الطرف الآخر , وكانت حكومة الارياني تشبه حكومة أحمد محمد نعمان في عقد السبعينيات من حيث الإمكانات والموارد الضئيلة التي لا تفي بالتزاماتها أمام متطلبات الباب الأول من أبواب الميزانية , وتحت ضغط الميزانية غادرت حكومة الارياني مقاليد الحكم واتجه رئيسها إلى الهيئة العامة لإعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال الذي حدث بداية الثمانينيات في محافظة ذمار .
وحقناً لدماء أبناء الوطن سمح النظام بإصدار صحيفة “الصحوة” مقابل صحيفة “الأمل” واستوعب كل قادة الجبهة الوطنية في مفاصل الدولة ومنحهم حقائب وزارية ,وتحوَّل الصراع من أفواه البنادق إلى محابر الأقلام وأوراق الصحف , وما كاد النظام يتنفس الصعداء حتى جاءت أحداث ( 13 يناير 1986م ) في عدن لتعيده إلى دائرة الصراع مجبراً, بسبب احتضانه الفصيل المهزوم في تلك الأحداث, وحدث ما يشبه القطيعة بين نظام صنعاء والفصيل المنتصر في عدن, وقبل أحداث(13 يناير 86م) كان نظام صنعاء قد عمل على تقوية تيار الاخوان المسلمين لإحداث قدر من التوازن بين القوى, ولاستغلال عدائيته للجبهة الوطنية, التي عملت على إقلاق السلم الاجتماعي في المناطق الوسطى , وكان الأخوان قد تحالفوا مع القوى القبلية بعد أن شعروا بإقصاء حركة 13 يونيو لهم- بدأ التحالف في الستينيات بعد إشهار حزب الله برئاسة الزبيري وتجدد في النصف الثاني من السبعينيات – بعد تحالف مع حركة13يونيو لم يدم طويلاً -تم خلالها استحداث الهيئة العامة للإرشاد برئاسة عبدالمجيد الزنداني , وقد لعبوا دوراً ملحوظاً في عملية الاستفتاء على مشروع الميثاق الوطني الدليل النظري والفكري للمؤتمر الشعبي العام في بداية عقد الثمانينيات وذلك بانخراطهم في أوساط الناس وقيامهم بالتوعية من منطلق عقائدي.
وقد شكَّل تحالف الأخوان مع القبيلة, سنداً جماهيرياً قوياً, جعل منهم قوة فاعلة اجتماعياً, وثقافياً, وعسكرياً, كما تجلى ذلك في أحداث المناطق الوسطى أو حرب صيف 94م لذلك فقد كانوا طرفاً أساسياً في الصراع .
ظل تيار الأخوان ذا فاعلية سياسية واجتماعية وثقافية مستغلاً حاجة النظام إليه في عقد الثمانينيات لمواجهة التيارات التقدمية والطلائعية التي ناصبت سلطة ( 17 يوليو) العداء ,وحاولت الانقلاب عليها عن طريق الفاعلين في المؤسسة العسكرية التي شكَّلت سندهم الداعم لكل تحركاتهم .
ومع انبلاج التباشير الأولى للوحدة اليمنية , شهدت الساحة الوطنية حركة دؤوبة لتيار الأخوان وقد دل خطابهم السياسي والتوعوي على رفض الاندماج مع التيار الماركسي , وقد تهاوت تلك التعبئة أمام إصرار القيادة السياسية , وشعروا حينها أنهم يجدفون ضد التيار فحدث بعض التعديل في موقفهم إذ أعلنوا رفضهم لدستور دولة الوحدة, مع القبول المشروط بالوحدة الاندماجية بين شطري الوطن .
بعد إعلان الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م مع ما صاحبها من ثورة في القيم, ومن تحولات كبيرة في شتى مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية, كان هناك مرحلة جديدة متغايرة كل التغاير عن ما سبقها, إذ أصبح الصراع في المرحلة الأولى الممتدة من 90م إلى عام 94م, صراعاً على تكوين ملامح الدولة اليمنية الجديدة, كل طرف من أطراف الصراع كان يرى في نظرية الآخر إلغاء لوجوده, وامتيازاته, وتهديداً لمستقبله, لذلك فقد غاب الوطن, وحضرت الذات التي تحاول إثبات وجودها في الدولة الجديدة, وقد شكلت وثيقة العهد والاتفاق الموقعة في الأردن انتصاراً للوطن/ الموضوع, والمهزوم من قبل الذات في حرب صيف 94م .
لم يكن إعلان الانفصال خياراً سياسياً كما يرى بعض أولئك الذين خاضوا المعمعة , بل كان انتحاراً سياسياً وجدت فيه القوى التقليدية المتحالفة فرصتها الغائبة للقضاء على النقيض المضاد لها, الذي ظل وجوده بكل مقومات الدولة في الجنوب, يهدد وجودها ومستقبلها .
شكَّل السابع من يوليو 94م بداية مرحلة جديدة, اقتصر الصراع فيها بين المتحالفين من القوى اليمينية والوسطية والتقليدية, وكانت سمة هذه المرحلة تقاسم الفيد والنفوذ والسلطة, وكان هم كل طرف محاولة إحراق الآخر وترميده سياسياً , وقد دلَّت انتخابات 97م النيابية على انتصار القوى الوسطية والنفعية المنضوية تحت مظلة المؤتمر الشعبي العام وكان خيار الاخوان العودة إلى صفوف المعارضة .
في الفترة الممتدة بين( 97م -2003م )عمل المؤتمر الشعبي العام على تصفية كل العلائق الناتجة عن ظروف التحالفات الاستراتيجية , كما عمل على إعادة ترتيب أوضاع المؤسسة العسكرية بما يتوافق وضمان مستقبله السياسي, حيث أقصى بعض القادة من مناصبهم , وعمل القضاء والقدر السياسي في تغييب قادة عسكريين لهم تاريخهم النضالي الكبير في حادث طائرة هيلوكبتر أمثال محمد إسماعيل وأحمد فرج وغيرهما, وتم تعيين بعضهم في الملاحق العسكرية في سفارات الخارج, وبعض أولئك شعر باستهدافه.. فاعتصم بألمانيا كعلي محسن صالح , واقتضى ذلك الإجراء إضعاف بعض المعسكرات في مقابل تحديث واستنفار جاهزية الأخرى, تحقيقاً للعبة التوازن وبحيث تكون نسبة الخطورة المتوقعة ذات قدر معقول يمكن السيطرة عليه, في زمن يحفظ للدولة هيبتها ومكانتها حسب تلك التوقعات والسياسات التي تم إتباعها والتي أملاها الراهن الجديد, وربما حضرت فيها الذات بشكل كبير وحضر الوطن بنفس القدر أو أقل.., إذ لا يمكننا القياس وقد لا يشكل ذلك قدراً من الأهمية بقدر أهمية قولنا في سياق موضوعنا أن الصراع في هذه الفترة اتجه إلى المؤسسة العسكرية, التي يتقاطع ولاؤها عند نقطة الالتقاء للقبيلة والدولة لذلك جاء تشكيل القوات الخاصة والحرس الخاص وتوفير الإمكانات اللازمة والمذهلة لهما تحصيناً للذات من الاختراق , وإظهاراً للقوة ,في مقابل ضعف الآخر الموالي بالأمس والمشكوك في ولائه اليوم وحاول ذلك الآخر إعادة ترتيب أوراقه بما يعزز من وجوده الاجتماعي والعسكري ومن قوته .
شكَّل الجيل الثاني المؤهل أكاديمياً وعسكرياً من أقرباء الرئيس العسكريين, خطراً مباشراً على الجيل الأول, وكان سبباً مباشراً في الصراع الذي وصلت روائحه إلى عامة الشعب, ولم تجرؤ وسائل الاعلام على الحديث عنه, وتحت سماء ذلك المناخ جاءت الانتخابات الرئاسية الأولى في اليمن عام 1999م, وتنافس فيها الرئيس علي عبدالله صالح مع ظله إذ قاطعتها كل الأحزاب واعتبر التجمع اليمني للإصلاح علي عبدالله صالح مرشحه فيها كإجراء تكتيكي صوري هدف من خلاله إلى الحفاظ على شعرة معاوية في علاقته التاريخية مع الرئيس صالح , وقد اعتبر الشارع اليمني ذلك اليوم يوماً للراحة والاستجمام, ولم يكلِّف نفسه عناء الانتظار في الطوابير لمعرفته النتائج سلفاً, وكان أبرز تجليات هذه المرحلة اغتيال المناضل جارالله عمر عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني, ومن بعده الحادث المروري الذي أودى بحياة المناضل يحيى المتوكل, وهما مناضلان شكلا قدراً من التوازن في مناخات السياسة اليمنية, وقد قيل أن حادث انقلاب السيارة كان مدبراً وأن أيادي خفية كانت وراءه لم يكشف النقاب عنها, ومثل ذلك قيل عن حادث انقلاب الشيخ مجاهد أبو شوارب, المعروف بانتماءاته القومية, والذي شكَّل قدراً من التوازن في مسار الطموحات للقبيلة اليمنية, وللقوى السياسية الراديكالية الفاعلة في الساحة الوطنية , شأنه في ذلك شأن صاحبيه المتوكل وجار الله عمر, ومن أبرز مواقفه إعلان البراءة من المصير المجهول الذي ينتظر وطن 22 مايو بعد إصرار طرفي الصراع في الفترة الانتقالية على التباعد, وهما الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام, ومن تشايع معهما من الأحزاب, ووقَّعَ ذلك البيان معه الشيخ سنان أبو لحوم وأذيع في التلفزيون, وكان له أثره السلبي على حياتهما السياسية بعد 7يوليو 94م, وشهدت هذه المرحلة ميلاد التكتل السياسي ( اللقاء المشترك) الذي ضم بين جناحيه كل الأحزاب الفاعلة اجتماعياً وسياسيا وثقافياً في الساحة الوطنية اليمنية, وفي مقابل ذلك استحدثت السلطة ما يسمى بالمجلس الأعلى للمعارضة, عملاً بمبدأ التوازن بيد أن المجلس الوطني كان عبارة عن قيادات ولافتات وليس له قوام جماهيري ساند ,لذلك فقد توارى دوره ولم يحقق الأهداف التي كانت السلطة ترجوها منه.
في 27 أبريل 2003م بدأت مرحلة جديدة حيث حقق المؤتمر في الانتخابات النيابية التي جرت –حينذاك- أغلبية مريحة, واعتمد في تلك الأغلبية على عوامل عدة, منها استخدام إمكانات الدولة والضغط التراكمي على الدوائر التي تمثلها المعارضة وحرمانها من المشاريع الانمائية والإنفاق الكبير على العملية الانتخابية, وشراء الذمم, مستغلاً ظواهر الفقر والحاجة وعوامل أخرى فنية .
لم تكن تلك الانتخابات عراكاً ديمقراطياً بين القوى السياسية الفاعلة فقط, بل كانت أكثر ضراوة بين القوى المتصارعة داخل المؤتمر نفسه, إذ شهدت الساحة الوطنية تململاً وبداية يقظة ورفض لما هو كائن, فقد لاحظ المتابعون من كوادر المؤتمر تنافس المؤتمر بصفة مستقلة ولم تغنِ المعالجات والوعود شيئاً يذكرُ, وكانت النتائج دالة على تسلل الوعي إلى عمق المجتمع, وعلى انفراط العقد الاجتماعي الذي يستند عليه المؤتمر في إدارة شأنه السياسي, والاستحقاق الدستوري خاصة في المجتمعات التقليدية .
وبذلك يكون الصراع قد تسلل إلى المنظومة الحاكمة والتي تتحالف تحالفاً استراتيجياً مع القوى التقليدية القبلية, ورأت أحزاب اللقاء المشترك في هذه الفترة ضرورة النضال في الوسط الاجتماعي من أجل إشاعة الوعي السياسي الغائب لدى الجماهير, وأطلقت مشروع الإصلاح السياسي كمدخل للوعي والإصلاح, وحشداً للجماهير بغية التفافها حول هذا المشروع, فعقدت الندوات والورش في كل مكان وحاول إعلامها ترجمة مضامين المشروع إلى درجة التصعيد والتراشق مع وسائل إعلام المؤتمر.
وفي هذه الفترة وتحديداً في عام 2004م انفرط عقد من عقود التوازنات السياسية التي عملت السلطة على تهيئة المناحات اللازمة لها بموجب تقديراتها , فكانت حرب مرَّان بمحافظة صعدة خروجاً عن التقديرات.
دعت السلطة الشباب المؤمن, لإحداث التوازن ومواجهة المد السلفي الذي بدأ ينتشر من (دماج) بصعدة ومناطق أخرى متعددة, وأصبح يدير صراعاً فكرياً حتى مع تيار الاخوان المسلمين – اقصد التيار السلفي – , وله امتدادات إقليمية داعمة , وكان الشباب المؤمن يشكل امتداداً متجدداً لجذر تاريخي يمتد إلى القرن الثالث الهجري, ويتخذ من صعدة مرجعية مكانية وسنداً داعماً له منذ عام 268 هـ.
بدأ الصراع بين التيارين صراعا فكرياً (أعني السلفي / والزيدي) أحدهما وهو السلفي يرى في الحديث النبوي مرجعية تضاهي مرجعية الكتاب الكريم, والآخر وهو الزيدي لا يعترف إلا بما كان متصل السند من آل البيت, كما أن التيار السلفي يتقيد بسلطة النص, والزيدي يرفض سلطة النص ويترك العنان للعقل في تأويل مقاصد النص, وعمل السَّيِّد منظِّر حركة تنظيم الشباب المؤمن حسين بدر الدين الحوثي , الاجتهاد والتجديد في المذهب الزيدي, مما ألَّبَ عليه مرجعيات المذهب التقليدية, مع ما صاحب ذلك من تهم تاريخية للمذهب الزيدي تطلقها الضرورة السياسية, لا الضرورة الموضوعية كما حدث ذلك أثناء صراع قادة المذهب مع الدولة العثمانية في بداية القرن الماضي –القرن العشرين – تجلَّى ذلك في معرض رد الإمام يحيى حميد الدين على علماء مكة حين انتدبهم الباب العالي لنصيحة الإمام .
كانت حرب صعدة هي القذيفة الأولى التي أحدثت شرخاً في السور النفسي الذي ضرب أوتاده بعد السابع من يوليو في عام 94م, بل كانت الشرارة الأولى التي أضاءت دهاليز الظلام في الذات المقهورة والمهزومة, إذ فتحت باباً مشرعاً على قيم الصراع الوجودي, الذي تجلى في حركة الاعتصامات والاحتجاجات, ومهرجانات المتقاعدين من العسكريين والعاطلين عن العمل, وبروز ما يسمى بالقضية الجنوبية مع ما صاحب ذلك من خطابات تمس جوهر الوحدة كنسيج اجتماعي وبعد سياسي .
قضية الجنوب جاءت كنتيجة منطقية لحرب مران وأخواتها, ذلك لتشابه الأسباب الدالة عليها والموحية بها, إذ أن نرجسية الذات المنتصرة في حرب صيف 94م, لم تدرك حجم المخاطر المحدقة بها, فتغطرست وجاءت انتكاستها في حرب مران وأخواتها كعلامة فارقة دلَّت على سوء الإدارة وسيطرة مراكز القوى على مجريات الحدث, وربما صناعته, لتبدو الحاجة أكثر وضوحاً إليها, هروباً من ما يهدد تلك القوى من مصائر مجهولة بعد أن شعرت أن جيل القصر الثاني بدأ يعد نفسه لصناعة المستقبل بعيدا عنها, وتلك هي ذات المعادلة التي رآها جيل القصر الثاني, حيث قدَّر أن الصراع في الشمال فرصة للتخلص من رموز عسكرية واجتماعية تقف حجر عثرة في سبيل الوصول إلى الغاية والأهداف التي ينشدها من التوحد والاستفراد .
والخلاصة :
يمكننا القول إن هذا الصراع أدى إلى إضعاف روح المواطنة وانقسام الهوية والتباس الوعي الاجتماعي, وأضحى الوطن على إثر ذلك غنيمة تتقاسمها الجماعات المنسجمة مع بعضها, كما نتج عن هذا الصراع الفوضى والعنف والفراغ الأمني والتدمير, وسبّب التدهور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإحباط النفسي والنكوص الحضاري وعمل على تشويه الإنسان والمجتمع والدولة.
كما أن حرب الانفصال التي حدثت صيف 94م, كانت بمثابة الانقطاع الحضاري المتجدد في المكان الجغرافي والزمان التاريخي، بما تركته من أثر في النسيج الاجتماعي والثقافي والأخلاقي, وهذا الحال كان سبباً مباشراً في ازدواج الشخصية وتنافر السلوك, بل شكَّل تعارضاً مباشراً بين الفكر والممارسة، الأمر الذي أنتج ما اصطلح عليه علماء الاجتماع “ثنائية التسلط والخضوع في بنية الشخصية “.
وقد أعقب تلك الحرب ـ حرب الانفصال ـ التباس في المفهوم وفي الهوية، وفي السلطة , كما أعقبها تناقض اجتماعي وتراجع مذهل في مؤشر التطور في دولة القانون ومؤسسات المجتمع المدني, وما يشهده الوطن اليوم جزء من نرجسية الأنا المنتصرة في حرب صيف 94م ومتوالياتها بما أحدثته من اختلال في منظومة القيم وبما هيأته من مناخات لقيم الصراعات المستقبلية في الوطن .
ولعل حركة الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها ساحات التغيير في الوطن نتيجة منطقية لتلك المقدمات التي أسلفنا القول عنها…… والسؤال :كيف تبدو ملامح المستقبل ؟
من المقروء أن قوى التحالف التقليدي لحركة 5نوفمبر1967م –وإن تغيَّرت أسماء الفاعلين فيها إلا أنها ذات الكيانات-استعادت أنفاسها وأعلنت تأييدها لثورة الشباب في ساحات التغيير بعد أن تفرقت بها السبل والمصالح والصراعات, وقد جمعتها ذات الأهداف والغايات التي جمعتها في الماضي بعد أن أخلَّ الجيل الثاني للقصر بموازين القوى والتحالفات التي كانت ولم يكن العدوان إلا حلقة في سلسلة الصراعات ذات الامتداد التاريخي .
فهل سيشهد المستقبل إعادة لإنتاج قيم الصراع؟