ودّع الوسط الإعلامي والسياسي الفقيد الحاج أحمد محمد الحبيشي في الأسبوع الماضي إلى مثواه الأخير، وكان وداعه خسارة صاعقة على اليمن المقاوم للعدوان السعودي – الإماراتي، وخسارة كبيرة على محبيه ورفاقه وطلابه وهم كُثر، خاصةً إذا ما قارنّا رحلته الإعلامية الطويلة التي بدأها من حوافي وأزقة ضاحية الشيخ عثمان في مدينة عدن، التي امتدت رحلته الإعلامية الصاخبة الثرية لأكثر من خمسة عقود تقريباً، وكانت رحلة عطاء بحق للعديد من الإنجازات الهائلة في المجلات الإعلامية والصحفية والأدبية.
تدرج الرجل (الجدلي) المخضرم في السياسة والإعلام في العديد من المواقع القيادية في حقل الإعلام والسياسة، وحيثما حلّ الرجل وبأي موقع، كان بمثابة إنساناً مؤهلاً متخصصاً مؤثراً جدليًا مع زملائه ومع خصومه، وهي طبيعةٍ خاصةً به، لا يستطيع أي فرد منّا أن يُجادل في خواص الناس وطبائعهم، وهي تكون مصاحبةٍ للفرد مُنذ أن خلقهم الله من اليوم الأول لحياتهم وحتى آخر نفسٍ تنفسوه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
شغل الفقيد — ومُنذ أن أنهى دراسته الجامعية وتخرج من جامعة بغداد العريقة عام 1978م، وعودته إلى جنوب الوطن إلى عدن — العديد من المهام والمناصب النقابية والإعلامية القيادية، ففي الفترة من عام 1986 — 1990م ترأس منظمة الصحفيين اليمنيين في جنوب اليمن، وكان كاتب لعمود صحفي أسبوعي في مجلة الثوري الناطقة آنذاك بلسان الحزب الاشتراكي اليمني، وكانت له مقالات سياسية وأدبية وإعلامية شبه يومية في الصحف المحلية الصادرة في عدن آنذاك.
وفِي الفترة من 1978— 1980م عُين سكرتيراً لصحيفة الثوري الناطقة بلسان الحزب القائد والموجه، وفِي الفترة من عام 1986—1990م عُين رئيساً لوكالة الأنباء اليمنية عدن.
في عام 1987م انتخب عضواً في مجلس الشعب الأعلى (البرلمان) وأستمر عضواً في مجلس النواب اليمني بعد الوحدة اليمنية المباركة، وشغل في ذات الفترة رئيساً لصحيفة مجلة الوحدة مُنذ 1990—1994م.
بعد العام 1994م خرج الأستاذ الحبيشي من اليمن مع فريق المعارضة من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني ومكث بالخارج قرابة الـ (6) سنوات، وحدد منفاه الاختياري بالعاصمة المصرية القاهرة، وهناك عكف على مواصلة التأهيل في المجال الصحفي والإعلامي، ونال شهادات علمية محترمة من المعاهد المصرية المتخصصة، ويومها عبّر بشجاعةٍ نادرة من خلال مقالاته اللاذعة وحواراته التلفزيونية العلنية، مُوجهاً انتقاداته الشجاعة ضد القيادات السياسية في الجمهورية اليمنية وبالذات قيادة الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح ونائبه عبدربه منصور هادي، ويتذكر ذوي الألباب والذاكرة الحية والنابهة، كيف كان يوجه الانتقاد ويتفنن في الإيذاء الإعلامي ضد خصومه السياسيين.
وبعد حواراتٍ مباشرة أجرتها معه القيادة السياسية آنذاك، ومع عددٍ من زملائه، اقتنع بالعودة إلى الوطن مستغلاً قرار العفو العام من جهة، ومستفيداً من مساحة الحرية في اختلاف الرأي والرأي الآخر الذي وجده مساحةً مهمةً لمخاطبة خصومه ورفاقه، ولكنه أخيراً اقتنع بالانضمام إلى صفوف المؤتمر الشعبي العام كعضو في اللجنة الدائمة الرئيسية، عُين بعدها رئيساً لصحيفة 22 مايو الأسبوعية، وبعدها رئيساً لمؤسسة 14 أكتوبر الصادرة من عدن.
دعونا هنا نستعرض موقف الرجل كمشروع إعلامي مهني، وكحامل لفكرةٍ إعلامية تنويرية نهضوية ذات طابع أممي وعروبي، ولكيلا نغرق في تحليل سلوكه الشخصي، الذي وقع فيه البعض للتشفي من موته وغيابه عن مسرح الحياة برمتها — ولأن حقيقة أن الموت وحدها تلغي مبدأ وفكرة الخصومة مع الآخر — وللتذكير هنا بأن القارئ اللبيب يعرف حق المعرفة بأن لكل فردٍ منّا هناته ونواقصه وعثراته لأننا في الأول والأخير نحن بشر، وهنا لو تفرغنا جميعاً لمعرفة عيوبنا ومثالبنا لما وجدنا وقتٌ إضافي لمشاهدة عيوب الآخرين، دعونا نستعرض في النقاط الآتية ما تيسر عن شخصية الحبيشي:
أولاً:
يعتبر من الكفاءات الإعلامية الكبيرة، ويُعد بمثابة موسوعةٍ إعلاميةٍ قلّ نظيرها، وهو محترف بدرجةٍ عاليةٍ من الاختصاص والمهنية، يعرف زملائه بالصحافة بأنه حينما يقرر إخراج وإنجاز صحيفة بحجمٍ كبير يقوم بإنجازها بمفرده من الألف وحتى الياء، فِكرةً، إعداداً، كتابةً، طباعةً وإخراجاً، ولا يحتاج إلاّ لساعات كي ينزلها للطباعة.
ثانياً:
الرجل متحدث جاد ولبق ولديه برامج تلفزيونية في أكثر من قناة فضائية يمنية، ولديه جمهور يتابعه باهتمام بالغ، وتجده يتنوع في الإعداد المسبق للمادة التي سيعرضها بين المجال الإعلامي، والسياسي والتاريخي مستنداً على توثيق رصين للمادة التي يود أن يعرضها.
ثالثاً:
الرجل يعرف مسبقاً حجم قدراته العلمية والإعلامية والفكرية الواسعة، ولذلك تجده يتحدث بشجاعةٍ كبيرة يدافع فيها عن موقفه السياسي والفكري، ولا ضير في أن يقع المرء بين حينٍ وآخر في تناقضٍ ما هنا أو هناك، لكنه في لحظته كان يمتلك شجاعة نادرة في التعبير عن ذاته وتاريخه ورفاقه، ليس ادلّ على ذلك من تبنيه الدفاع عن معلمه الأول كما يردد دائماً بأن الأستاذ الفقيد عبدالله عبدالرزاق باذيب مؤسس فكرة اليسار في اليمن عموماً هو المعلم الأول له، ودافع بشجاعة عن مواقف الشهيد عبدالفتاح إسماعيل وعن مواقف الشهيد علي أحمد ناصر (عنتر)، وعن العديد من القادة الذين عمل معهم.
رابعاً:
الرجل دافع عن حركة أنصار الله وزعيمه قائد الثورة الحبيب عبدالملك بدر الدين الحوثي بقوةٍ ووضوح في وقت كنّا نحن ننتقدها كحركة سياسية، لكنه هو قد تجاوز ذلك بالدفاع عن الحركة مخاطباً بالقول، يا رفيق عبدالملك الحوثي، ويسترسل بالحديث عن إنجازات الحركة ومستقبلها، كما كان يدافع بذات القوة عن قيادة المؤتمر الشعبي العام وموقف كلا الحزبين الشجاعين في الوقوف في خندق واحد لمقاومة ظلم وطغيان العدوان السعودي – الإماراتي على الجمهورية اليمنية، فالحبيشي اختتم حياته كما يقولون، ختامها مسك، أما خصومه فقد أختموا حياتهم بالذُل والهوان، وهم يستجدون من أمام أبواب سفارات دول العدوان التي تقتل في شعبهم وتحاصره، يستجدون مصالحهم المادية الرخيصة.
خامساً:
برزت انتقادات غير أخلاقية تجاه الفقيد أحمد الحبيشي وموقفه السياسي الوطني مع أنصار الله، وقالوا أنه يعمل على تلميع صورة الحركة وقادتها، وأنه قد تنقل في مواقفه الفكرية من اليسار الشيوعي باعتباره من رفاق باذيب، إلى موقفه الاشتراكي مع عبدالفتاح إسماعيل، إلى دفاعه عن فكرة الانفصال مع الرفيق علي سالم البيض وياسين سعيد نعمان، إلى عودته للدفاع عن تجربة الوحدة اليمنية ووقوفه إلى جانب الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، وصولاً لموقفه الحالي حتى لحظة وفاته ووقوفه مع حركة أنصار الله وقيادتهم للدولة ومع قائد الثورة الحبيب عبدالملك بدرالدين الحوثي، إلى آخره من المواقف، سنرد عليها في النقطة الآتية.
سادساً:
علينا أن لا نستغرب تلك الانتقادات الهابطة القادمة من بعض رفاقه القدامى، وربما القليل من أصدقائه ومن الكثر من خصومه، لأنهم جميعاً لم يستوعبوا بعد ولا يرغبوا أن يفهموا ذلك العدوان على الشعب اليمني لأسبابٍ متعددة، وبأن هناك عدوان وحشي موجه ضد الجمهورية اليمنية وعاصمتها صنعاء قد بدء بالفعل في صبيحة الـ 26 مارس 2015م، وعلى إثر ذلك العدوان قُتل فيها الأطفال والشيوخ والنساء ودُمرت المنشآت والمؤسسات والبنى التحتية، وكُلّها موثقة (صوتٍ وصوره)، وبعد خمسة سنوات من ذلك العدوان السعودي — الإماراتي المدعوم من مُعظم الأنظمة العربية الرجعية والدول الغربية قاطبةً بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، هذا العدوان لا يقف أمامه وفِي وجهه غير الناس الشجعان الأحرار أمثال أحمد الحبيشي، ومحمد العيدروس، وقاسم لبوزه، وخالد الديني، وأحمد الرهوي، واحمد علي لحول المصعبي وابنه غازي لحول، وعبدالعزيز الترب، وخالد باراس، وعلي محمد الطمباله العولقي، والشيخة علياء فيصل عبداللطيف الشعبي ابنة المناضل الشهيد فيصل عبداللطيف، والأستاذة فتحيه عبدالله، ولقمان باراس، وأحمد القنع، والدكتور محمد المشجري، وناصر باقزقوز، وغالب مطلق، أحمد حمود جريب، وعبيد بن ضبيع، وطارق سلام العدني، وهاشم السقطري، وصالح فضل الميسري، وصالح الصائلي والجنيدي، وعبدالقادر العلبي، وأحمد عبدالله العوذلي، وبنان العولقي، أحمد العليي، والإعلامي الكبير محمد منصور، وسامي عطاء، وكريم الحنكي، وناصر حبتور، ونزار بن يحيى، ونزار باعلوي، والآلاف من اليمانيون الجنوبيون الأفذاذ الذين لا نستطيع ذكرهم هنا في هذا الحيز المحدود، نعم هؤلاء هم أحرار الجنوب الذين وقفوا كالحبيشي مع الشعب اليمني المقاوم للعدوان، وهل هناك انبل من قضية الوقوف صفاً واحداً مع الحوثي والمؤتمري للذود عن حياض الوطن العظيم اليمن والدفاع عن عِرضه وأرضه؟؟؟.
سابعاً:
وقع العديد من الناس ومنهم البسطاء وحتى بعض المثقفين في مصيدة المصطلحات الإعلامية لدول العدوان وإعلام داعميهم، ونجد العديد من هؤلاء يكررون تلك المفردات بسذاجةٍ مُفرطه، لنأخذ مصطلحات تكررت قرابة المليار مرة وربما يزيد، ومع ذلك لازالوا يكررونها بغباءٍ نادر وكأنهم جزء من جموع العوام الدهماء، لنأخذ مصطلحات كالمناطق والمحافظات المحررة، ودول الحلف لمساعدة الحكومة الشرعية، والجيش الوطني والانقلابيين الحوثيين، والانقلابيين الانفصاليين … الخ من تلك المصطلحات التي أصبحت محل تندر العديد من المثقفين العرب والأجانب.
دعونا نقترب من الواقع الفعلي قليلاً، وكيف يجب أن تقاس الأمور؟، حركة أنصار الله بقيادة القائد الحبيب عبدالملك الحوثي ورفاقه قامت بحركة مقاومة ثورية تطورت إلى ثورة شعبية عارمه، وبعدها تم التوقيع على وثيقة الشراكة الوطنية، هكذا سارت الأمور.
ألم يُروّجوا هؤلاء (المثقفون) كثيراً في مطلع عام 2011م لحركة التمرد شبه العسكري التي قادها الإخوان المسلمون والناصريون والاشتراكيون والانفصاليون والمتساقطين من الأحزاب، وقالوا عنها بأنها ثورة فبراير، وطبّلت لهم كل وسائل الإعلام العربية الرجعية والأجنبية بما فيها إعلام العدو الإسرائيلي، هُنا ينبغي التوقف بصدق مع المفردات المُضللة البائسة وتصحيحها.
هم يعرفون قبل غيرهم بأنه في صبيحة يوم الخميس 26 مارس 2015م شنّت الطائرات المُغيرة على المدن اليمنية بآلاف الغارات، دون أن يعرف الرئيس الأسبق عبدربه منصور هادي بأن هناك (عاصفة حزم قد بدأت من قبل المملكة العربية السعودية)، تحدث الرئيس الأسبق عبدربه منصور في حينها وصرّح إعلامياً بذلك، أي أن (الشرعية) لا تعرف بذلك الهجوم العدواني، وأن الشعب اليمني لم يفوّض أحد، لا السعودية ولا الإمارات ولا أمريكا ولا بريطانيا بأن يدمروا بلاده، واستمر العدوان حتى هذه اللحظة ونحن نكتب هذا المقال.
هنا وأمام هذه المؤامرة الكبيرة على الشعب اليمني، انقسم اليمانيون إلى أربعة اطراف وهي:
أولاً:
قرر الأحرار اليمنيون من شماله وحتى جنوبه ومن شرقه حتى غربه بالدفاع عن الوطن ضد التدخل الخارجي السعودي وحلفائه، وهو قرارٍ صائب كحق طبيعي كفّله الدستور اليمني والقانون الدولي وشرائع السماء كلها، وجميعها كانت سنداً أخلاقياً لهذا الفريق الوطني المقاوم.
ثانياً:
وقف من يسمّون انفسهم (بالسلطة الشرعية)، إلى جانب الانفصاليون الجنوبيون وقادة الأحزاب الدينية (الإخوان والسلفيين) وقادة اليسار الاشتراكيون وبقايا القوميون العرب، وقرروا السفر إلى مدينة الرياض عاصمة دولة العدوان الأولى على اليمن، ليقبضوا ثمن سكوتهم عن العدوان على الشعب اليمني وهي أسماء معروفة للمواطن كانت ذات يوم ترفع شعارات براقة كالشعارات القومية واليسارية والدينية والوطنية، لكنهم جميعاً طأطأوا الرؤوس وركعوا صاغرين أمام إغراءات مادية صغيرة لا تحسب في الحسابات المعنوية الهائلة تجاه الأوطان، كالثبات على المبادئ والقيم والشرف الوطني، هؤلاء النفر القيادي سيكتب عنهم التأريخ كثيراً بحبر الخزي والعار والخيانة لليمن العظيم.
ثالثاً:
هناك فريق ثالث نأى بذاته عن الصراع الدائر بين اليمن وشعبه الحر من جهةٍ وبين القوى الغازية الاحتلالية الجديدة (السعودية والإمارات) بحمايةٍ ورعايةٍ أمريكية وبريطانية من جهةٍ مقابله، هؤلاء الناس فضّلوا الصمت السلبي وبقوا خارج الوطن أو داخله، هؤلاء نستطيع أن نقول عنهم سلبيين ومسالمين فحسب، لم يضروا الوطن ولكنهم لم يفيدوه.
رابعاً:
هناك فريق رابع وهم الأكثرية الساحقة من المواطنين الذين تاهوا في مسارات البحث عن لقمة العيش والبحث عن المأوى والمأكل والمسكن والخدمات بجميع أنواعها.
هنا نستطيع أن نقول بثقةٍ عالية بأن عددٍ من القيادات الجنوبية ومنهم الفقيد الحاج احمد الحبيشي ومن ورد ذكرهم في النقطة السادسة أعلاه، قد حددوا بوضوح وللعام السادس من العدوان بأنهم يقفون بثبات في الدفاع عن صنعاء عاصمة اليمن الأبدية وعن كل شبرٍ من أراضيها الطاهرة، وأنهم وقفوا بثبات وقوه مع السيد الحبيب قائد الثورة عبدالملك الحوثي في هذه المعركة المفصلية من تاريخ الشعب اليمني والتي تُعد اشرف معركة بين الحق والباطل، من شعب يمني يقاوم العدوان والحصار وقطع الرواتب، وهل هناك انبل وأشرف واعظم من قضية الدفاع عن الأوطان يا هؤلاء؟!!، هُنا عليكم أيها المنتقدون للرفيق الشهيد الحاج أحمد الحبيشي أن تتوقفوا عن أي ذمٍ وقدحٍ واتهامٍ له، لأنه اليوم اصبح واقفاً بأعماله الشخصية بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهو وحده الغفار، الرحيم والتواب.
عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، واللّهُ أَعْلَمُ مِنَّا جَمِيعاً.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾