من يقرأ تاريخ الثورات في العالم بوعي وبقدر من الموضوعية يجد أن الثورات التي يستخدم فيها العنف وسيلة للتغيير سرعان ما تقع في براثن الفاسدين وتسلقها انتهازيو النظام الذي قامت الثورة من أجل تغييره ، ولهذا فقد تحولت أهداف أغلب تلك الثورات إلى شعارات يستخدمها الممسكون بالسلطة لتخدير الشعوب ولتستمر قافلة الفساد، ويتحول العنف الذي يستخدم أهداف الثورة كشعارات يسطون من خلالها على السلطة ويقومون بتصفية معارضيهم وإقصائهم وتصبح دورات العنف محطات للانتقام والانتقام المضاد، فهل بالإمكان إيجاد وسيلة لمراجعة تاريخ الثورات وصناعة إطار وطني لثورة سلمية علمية جامعة تقوم على مبدأ التعددية في إطار الوحدة أي تتاح من خلالها الفرصة قدر الإمكان لتعدد الوسائل من أجل تحقيق الهدف الوطني الجامع ويحوِّل الثورات من دوائر للانتقام والعنف إلى دائرة للبناء الوطني والمستمر وتراكم الفرص والأفكار ومراجعة الأهداف المتعددة لتصب في مصب موحد يضع التغيير نحو الأفضل هدفاً سلمياً حقيقياً يستفيد الجميع في ظله من تراكم الإمكانات والقدرات والمواهب ويوجهها لتكون دافعاً لما يشبه ورشة عمل بناء وطني شامل كترجمة عملية لمقولة (ثورتنا مستمرة) فضمير المتكلم الجمعي إن لم يترجم إلى واقع يذوب فيه الشعار فسيتحول إلى أداة إحباط وحرف نداء لحالة انعدام الثقة التي ينطبق عليها قوله تعالى (كبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون)؟!
وفي اعتقادي أن البداية الجادة للبحث عن الإطار الوطني الجامع للثورة المستمرة هو البحث الدائم عن القاسم المشترك لكي تكون الثورة للشعب كل الشعب، وهذا هو الخيار السلمي الوحيد للثورة الذي يحوِّلها إلى ساحة للفعل الثوري القابل للاستمرار – إن جاز التعبير – وهو نقيض فعل التغيير بالعنف الذي سرعان ما ينتهي بالعنف المضاد، لأن من المستحيل تدجين شعب وإخضاعه لمفهوم فكر عصبوي مُعيَّن يمثل تنظيماً سياسياً أو جماعة فكرية محددة، بل إن هذا هو المدخل لاستمرار الصراع على السلطة ووسيلة حزينة لإهدار الطاقات والإمكانات.
وهذه مسألة تعتمد على استمرار إعمال العقل والوعي وتنشيط الذاكرة يستفاد منها من دراسة التجارب التاريخية التي مرت بها اليمن بحثاً عن ثورة تمثل طموحات كل اليمنيين وليس جزءاً منهم أو توجهاً سياسياً بذاته أو جماعة مذهبية أو طائفية محددة..
ولأننا نربط نجاح الثورات بتحقيق أهدافها، فإن البحث عن إطار موحد للثورة اليمنية يوجب على كل عاقل أن يسأل : ماذا تحقق من أحلام اليمنيين المتعددة بالثورة؟ ولنبدأ مثلاً بآخر النماذج الثورية لنسأل بحرص وصدق: ما الذي تحقق من أهداف هذه النماذج الثورية التي يوجب علينا منهج المصداقية بداية أن نطلق عليها جميعا بالأحلام الثورية لسبب بسيط وواضح هو أن أهداف هذه الثورات لم تتحقق بعد، والحرص على منهج المصداقية يستدعي جملة اعترافات بعدد هذه الأحلام.
فإزاء حلم اليمنيين بالثورة في 26/سبتمبر/1962م لا بد من الاعتراف بأن هذا الحلم لا يكتمل إلا بتحقيق أهداف ومبادئ الثورة الواضحة والتي سرعان ما انحرفت بها بعض الأمزجة التي تسلقت لتضفي عليها قدراً من النزعة العنصرية رغم المشاركة الواسعة لمختلف أطياف الشعب في القيام بهذا الفعل الثوري، ولم يتحقق من أهدافها سوى كسر العزلة التي نسبت إلى نظام ما قبل الثورة ، ولعدم المصداقية ما لبثت أن أصبحت السلطة المحسوبة على الثورة تحت إمرة أعتى نظام ملكي في المنطقة هو النظام السعودي الذي وقف ضد الثورة في بدايتها ليصبح قائداً وقيِّماً على النظام الجمهوري، فرئيساً لتحالف أشرس عدوان شهده العالم باسم الشرعية والثورة والجمهورية وهذا حالنا اليوم !؛
أمَّا حلم اليمنيين بالثورة التي انطلقت في 14/ أكتوبر/1963 للتحرر من الاستعمار البريطاني فلا بد من الاعتراف بأن هدفها الرئيسي هو استعادة الحرية والاستقلال، وأن ممارسات ما بعد مسمى الاستقلال تؤكد أن هذا الحلم صار اسماً بلا مسمى..
وأمَّا حُلمَ اليمنيين بالوحدة فيجب الاعتراف بأنه قد تحَّول في 1990م إلى كابوس يسيئ إلى الوحدة السلمية باسمها بعد أن عُمدت بالدم كما كان يفاخر الانفصاليون الحقيقيون من رموز الفساد في دولة ما يسمى بالوحدة.
ولا بد من الاعتراف بأن محطة حلم اليمنيين بالثورة الشبابية كما أسميت في 11/فبراير/2011م قد أجهضته المبادرة السعودية بفضل عمالة وارتهان بعض القوى السياسية المعروفة أدوارها، والاعتراف بأن ما يسمى بالحوار الوطني المترتب على هذه المبادرة لم يكن سوى خدعة كبرى أو طُعم ابتلعه اليمنيون المشاركون فيه ببساطة لأنه كان موجهاً من السفارات الأمريكية البريطانية السعودية والأسباب كثيرة وواضحة منها طريقة تشكيل لجنة الأقاليم ولجنة الدستور ورسم وإجهاض آلية عملهما بحيث صارت معبرة عن إرادة الخارج وليس إرادة اليمنيين، فعدد الأقاليم وحدودها لا يمكن أن يكون مقبولاً ما لم تكن نتاج حوار يمني حقيقي يعبِّر عن المصلحة الوطنية لليمن وليس تلبية لمطامع السعودية وشركات النفط والغاز.
ولا بد كذلك من الاعتراف بأن حلم اليمنيين بالثورة التصحيحية في 21/سبتمبر/2014م لايزال عالقاً بسبب ظروف العدوان وتسلق الفاسدين، فقد تخلص اليمنيون من جزء من نظام الفساد ولا بد من البحث وطنياً وبصورة جادة وسلمية ومسؤولة عن كيفية التعامل مع الجزء الآخر بما يحقق أهداف الثورة لتكون ثورة بحق.
* (ربَّاهُ إن القوم تنهب شمسنا * وكلابُهمْ في كل يومٍ تكثُرُ)
* من ديوان موعد مع الشمس قصيدة (عمر الفتى) ص 98 .. مهداة للمرحوم الشاعر حسن الشرفي 1992