بينما هو يعيش منذ سنوات في عاصمة الضباب البريطانية لندن , يلتقي ضيوفها من العرب والعجم , أطل الكاتب الفلسطيني الكبير في إحدى تسجيلاته المصورة على متابعيه يبشرهم بإمكانية قصف اليمنيين لأهداف داخل إسرائيل , قائلا لو كان اليمنيون دولة جوار لفلسطين المحتلة لحرروها منذ زمن .
ليست هذه الكلمات هي بذاتها سواء بمبناها أو معناها هي موضوع سطورنا , ولكن الذي يلفت الانتباه أنها قيلت من قبل للمصريين والعراقيين والسوريين وتقال للإيرانيين والأتراك أحيانا , ويجوز أن تقال لقطر والسعودية حتى كوريا الشمالية . وهذا قدر الفلسطينيين وقدر القضية وقدر كل من يتحمس لها .
قضية العرب المركزية وقبلة المسلمين الأولى تاهت بين أقدام الجميع , القوميون سلموها للإسلاميين وبدورهم تسلمها الخليجيون , الذين سبقتهم خبرتهم في تسليم بغداد لأمريكا ودمشق لروسيا وطرابلس ليبيا لحلف الناتو ومؤخرا تزور وفودهم القدس باعتبارها عاصمة إسرائيل , وما زال الكاتب الكبير ينتظر جحافل تأتيه من اليمن أو من إيران لتحريرها .
متناسيا أن آخر معركة خاضها الجيش الإيراني كانت ضد العراق أما التركي ففي سوريا وليبيا .
حروبنا سلسلة من المبكيات فآخر معركة للجيش العراقي قبل الاحتلال الأمريكي كانت ضد الكويت أما الجيش السوري بعد 73 فآخر معاركه كانت في لبنان ثم داخل سوريا نفسها , أما اليمن الذي ينتظره فيعيش محاصرا منذ ما يقرب من 6 سنوات , بين عدوان تحالف عربي وتحالفات صغيرة بين بعض اليمنيين أنفسهم , بل إن الفلسطينيين الصامدين أنفسهم ضائعون بين أريحا وغزة .
حرب لن تكون
المنطقة كلها تعيش على صفيح ساخن سواء المطبعين الجدد مع إسرائيل أو من ينتظر , ومنهم من يحرض على إيران ومنهم من يعلن عن تحالفه معها ضد أي عدوان أمريكي محتمل . وفي ظل صمت روسي صيني أوروبي مريب تجوب الغواصات والبوارج والأساطيل الأمريكية والإسرائيلية مياه المنطقة العربية من شرقها إلى غربها انتظارا لساعة الصفر التي لم تأت أبدا منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران في عام 79 , ولا حتى أثناء عملية احتلال العراق عام 2003 حيث كانت كل أسلحة الدنيا مكدسة على الحدود مع طهران .
والسؤال هل ترغب لأمريكا فعلا في شن حرب على إيران ؟ وهل ترغب إسرائيل نفسها في شن هذه الحرب ؟
رغم الدعاية الصاخبة من كلا الجانبين إلا أن إيران تعرف أن أمريكا لن تحارب وتعرف أيضا أن إسرائيل كذلك لن تفعل , فلا مبرر للحرب ولا المفاعل النووي الإيراني في حد ذاته يصلح ليكون مبررا لحرب كبيرة أمام الرأي العام الأمريكي والإسرائيلي والعالمي , لماذا تخسر أمريكا جنديا واحدا في حرب كهذه وهي التي تتحقق أهدافها جميعا في المنطقة باتصال تليفوني يتحمل تكلفته أمير عربي ؟ ونفس الأمر بالنسبة لإسرائيل , لماذا تقاتل وهي التي تحصل على تطبيع مجاني , وهي التي كانت تحلم بحدود من النيل إلى الفرات فأعطاها عرب 2020 حدودا من المحيط إلى الخليج , ومن سوقطرة جنوب باب المندب حتى سبته ومليلة على مضيق جبل طارق ؟
رسائل أمريكية إسرائيلية في انتظار الرد
أمريكا – ترامب بعث برسائله الواحدة تلو الأخرى لإيران أحيانا كان يتلقى ردا وأحيانا ينتظره , حدث هذا في كل حدود دول وجماعات محور المقاومة بل داخل الجغرافيا الإيرانية نفسها وكذلك فعل نيتنياهو , ومنها حوادث سفن وطائرات في الخليج العربي ومنها قصف لمواقع إيرانية في سوريا ومناوشات هنا وهناك , ومنها حصار إيران اقتصاديا ومحاولة عزلها سياسيا على مدى فترة حكم ترامب , إلى أن حدثت العملية الكبرى التي لم يتحملها الصبر الإيراني وهي قتل قاسم سليماني حيث ردت بقصف معسكرات للجيش الأمريكي في العراق وتوترت الأجواء مجددا وانتهت إلى لا شيء , إلى أن تلقت إيران الضربة التالية قبل أن تحتفل بالذكرى السنوية الأولى لاستشهاد سليماني على طريقتها , وهي قتل العالم النووي دون رد حتى اليوم , وهو الذي ذكر نتينياهو أسمه قبل عام من قتله في قلب طهران عندما تمكنت إسرائيل بعملية مخابراتية من الحصول على وثائق تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني من داخل إيران .
إذن فالذي يدعو إلى الاعتقاد بأن نشوب حرب أمريكية إيرانية افتراض وهمي هو أن إيران تلقت الرسائل الأمريكية الإسرائيلية التي تتعلق بأمرين اثنين لا ثالث لهما الأول ويتعلق بقتل أهم قادتها العسكريين وهو ,الحد من نشاطها العسكري في العراق والشام واليمن في مرحلة تالية وإثارة الصداع في المنطقة , أما الثاني فيتعلق بتخفيض سقف طموحها النووي بالشكل الذي تطمئن له إسرائيل , ثم يكون لها بعد ذلك ما يكون عندما يسكن الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن في البيت الأبيض .
هذا على الجانب الأمريكي الإسرائيلي بتمويل خليجي أو بمشاركة عربية فماذا عن الجانب الإيراني ؟ هل تريد إيران فعلا مواجهة عسكرية كبيرة ؟
الإجابة – لا – حتى لو امتلكت إيران من السلاح ومن الحلفاء ما يكفي لكسر توازن الرعب وإحداث خسائر فادحة في كل الإقليم . لماذا ؟ أولا لأنها لا تريد أن تخسر مشروعها النووي , وثانيا لأن نظام الحكم فيها حتى الآن يستند إلى قاعدة جماهيرية عريضة لا يجب أن يخسرها تحت أي ظرف وثالثها أن قدرتها على امتصاص الظروف الصعبة شارفت على أن تؤتي نتائجها برحيل ترامب وظهور الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في الصورة مجددا وهو بطل الاتفاق النووي ومعركة فك الحظر عن الودائع الإيرانية . ثم إن قدرة الاقتصاد الإيراني بوضعه الحالي قد لا تسعفه في معركة طويلة , رغم علاقتها الجيدة بروسيا والصين.
في مقال سابق قبل عام تقريبا ذكرت أن كل مشاكل المنطقة العربية شرق البحر الأحمر لن تنحل إلا دفعة واحدة معا , وذلك إذا انتهى التوتر الأمريكي الإيراني ولو بأي نتيجة , ورغم تعكير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمشهد كثيرا في سوريا والعراق ولبنان ومؤخرا بإعلان رغبته في علاقات أفضل مع إسرائيل وإعادة تبادل السفراء , إلا أن دوره كبلطجي يغلب على بقية أدواره بحيث يرضى بالفتات غالبا , وإذا جلس على مقاعد الكبار فيبدو في صورة اللئيم الانتهازي وليس العزيز كبير النفس والدور.
ولكن ماذا عن محور المقاومة ؟
بانضمام صنعاء أنصار الله إلى هذا المحور الذي يضم إيران الدولة وسوريا الدولة والعراق الحشد الشعبي ولبنان حزب الله وحماس غزة , يصبح لدى المقاومة رصيد ضخم من المقاتلين والسلاح , وهم أتباع المذهب الشيعي بالأساس لتكون ألوان الخارطة هكذا , سنة في مقاعد السلطة والجيوش النظامية وشيعة مشاركة في السلطة أو خارجها بدرجة أو بأخرى وتبقى حماس حالة خاصة .
على ذكر العراق الذي سبق وأطلق 39 صاروخا باليستيا على إسرائيل في عهد صدام حسين , وكانت من بين الأسباب التي تسببت في تعطيله عن الحياة تماما ليعيش دولة بلا مستقبل واضح منذ عام 2003وحتى الآن , وليتحول إلى حديقة خلفية لواشنطن وطهران , فيه يتم الحوار بينهما بالسياسة أو بالسلاح . في العراق تحاول حكومة الكاظمي وقبلها حاولت حكومة عبد المهدي أعادة تنظيم الجيش الوطني وجمع كل السلاح في يده وإنهاء مهمة الفصائل بما فيها الحشد الشعبي ولكن هذا لم يحدث حتى الآن ويعتبر حلما مؤجلا لحين إرساء قواعد تفاهم إيرانية أمريكية جديدة . سواء بالحرب أو بالتفاوض , ولكن في حالة الحرب فلن يشارك العراق الجريح كدولة وإن شاركت الفصائل المسلحة .
أما في سوريا حيث يواجه جيشها إرهاب الداخل والخارج معا , وهي الدولة التي تحتفظ رسميا بحق الرد على الاعتداءات الإسرائيلية منذ عشرات السنين , وفي ظل وضع اقتصادي بائس وبنية اجتماعية محطمة بسبب ضخامة أعداد اللاجئين للخارج والنازحين في الداخل , فغالبا ليس لديها ما تقدمه في مواجهة أمريكية إيرانية إلا جغرافيتها المتنازع على حدودها حتى الآن بين أمريكا وروسيا وإسرائيل وتركيا وإيران وحزب الله كل في نطاق تمركزه وحدود إمكاناته , إذن فالجيش السوري كقوات وسلاح هو خارج أي مواجهة نظرا لظروف اتساع نطاق مواجهته للإرهاب والمعارضة المسلحة … الخ
أما في لبنان فالمعادلة واضحة تحالف حتى الموت أو الاستقرار فحزب الله الذي يدين بالولاء والمال والسلاح هو الأكثر وضوحا في الإعلان عن مرجعيته للولي الفقيه , ولا يمنعه من الدخول في أي مواجهة لا حالة سياسية متردية في لبنان ولا حالة اقتصادية يرثي لها ,بل إنه يقف حارسا على حدود الجنوب اللبناني ومستحقات لبنان في غاز المتوسط وحقه في المشاركة في عملية ترسيم الحدود مع إسرائيل إن وجدت . وتصمد خبرات حزب الله في المواجهات العسكرية مع إسرائيل منذ عام 82 لتضع حسن نصر الله في مرتبة سيد المقاومة بلا منازع .
وعن حماس المتأرجحة من حاضنة إلى حاضنة , بين تركيا وإيران وسوريا والعراق وقطر والسعودية , وهي التي خان قادتها النظام السوري في 2011 , وهي التي أيد قادتها في 2015 عمليات التحالف العربي في اليمن , حماس حائرة بين الجميع بمذهبها السني ومرجعيتها الإخوانية وتحكمها جغرافيتها في مساحة ضيقة محاصرة , وتميزها بالجوار المباشر مع المدن الإسرائيلية , الآن تبذل إيران جهودا ضخمة لتحقيق المصالحة السورية الحمساوية لتوسيع رقعة التهديد الإيراني لواشنطن وتل أبيب في حالة نشوب حرب شاملة , لو حدثت قد تحقق حماس لنفسها شيء ولكنها لن تحقق للقضية الفلسطينية أي شيء .
ومن العراق والشام وسوريا الكبرى والهلال الخصيب والهلال الشيعي وكلها مسميات أطلقت على هذا الجزء من الخارطة العربية ونزولا إلى أقصى جنوب الجزيرة العربية , هناك في اليمن شمالا , والتي انضمت مؤخرا لمحور المقاومة بعاصمتها صنعاء وعلى لسان زعيمها عبد الملك الحوثي , حيث تكلفة الحرب أقل والمقاتلون فيها عقيديون أهل قتال , هم الذين شعارهم ومن كان فقيرا فليستعفف .
وفي رأيي إن أقوى حليف هو اليمني فقد تم اختباره ميدانيا على مدى سنوات منذ انطلاق دعوة أنصار الله في منتصف التسعينيات من القرن الماضي , وهو الحليف الذي بلا سقف ممنوعات تمنعه عن توجيه أي ضربة لأي مكان تطاله أسلحته , وقد أدى أداء مميزا في قتاله ضد التحالف وحقق نتائج قاسية في أرامكو والمطارات السعودية والمدن والقرى اليمنية . وهو أيضا يتمتع بحاضنة شعبية مناسبة تسمح له بالقتال دون ضجيج .
ومن يتابع خطابات نصر الله تحديدا سيلاحظ انه يعلق آمالا ضخمة على اليمنيين , في أي مواجهة إيرانية أمريكية , للدرجة التي فعلا استفزت إسرائيل , فموقع اليمن حاسم استراتيجيا , ولديه إن توفر السلاح أهداف إقليمية ودولية سهلة ومؤثرة . ومع ذلك فمصلحته قد تقتضي ألا ينشب صراع أمريكي إيراني مباشر وأن لا تفرض عليه هذه الحرب لأنه يتعامل مع أزمته الداخلية بسياسة خطوة بخطوة .
وكـ حال أخوان حماس الحائرون بين العواصم يقف إخوان اليمن تائهين بين المغريات الإيرانية القطرية التركية , وتاريخهم مع أمريكا وبريطانيا والسعودية , ولكنهم في كل الحالات لا يستدعون إلا للعويل والصراخ على الفضائيات وصفحات التواصل فهم في يمنهم كغيرهم في دول أخرى خبراء في الفتنة والتشكيك .
فلننتظر ونرى هل ستشب حرب في شرق البحر الأحمر تعيد هذه المنطقة إلى ما قبل التاريخ , أو يجري التوصل لتفاهمات ترضي غرور البعض ولا تحقق مصالحه ؟ أو يبقى الحال على ما هو عليه ؟ المهم في كل ذلك ما نؤكد عليه باستمرار , وهو أن مشاكل هذه المنطقة من العالم مرهونة بطبيعة ومدى الصراع الأمريكي – الإيراني ولا عزاء للآخرين .