ولماذا لا نراها إخفاقًا أمنيًّا فقط وإنّما انتِصارًا لإرادة المُقاومة وعُقولها الجبّارة؟ وهل سيُعيد أحد قادتها الزبيدي تفعيل “كتائب الأقصى” الفتحاويّة بطَبعَتِها الأُولى؟
...
عندما يبدأ خصمك في تحقيق الانتِصارات الواحِد تِلو الآخر، وتَخْرُج أنت من هَزيمةٍ لتَدخُل في أُخرى أكبر، فاعلم جيّدًا أنّ النّهاية لاحتِلالك باتت وَشيكةً جدًّا.
الخصم هُنا هو المُقاومة الفِلسطينيّة ورِجالها الأبطال الذين يُطَوِّرون وسائل وأساليب نِضالهم، ويتَفوّقون على عدوّهم المُدَجَّج بالأسلحة الحديثة، ويتباهى أمام العالم كُلّه بخُبراته الأمنيّة والعسكريّة، أمّا المُحتَل فهو العدوّ الإسرائيلي، والمُناسبة هي نجاح ستّة من الأسرى الفِلسطينيين بقِيادة محمود العارضة من الجِهاد الإسلامي، وزكريا الزبيدي أحد أبرز قادة كتائب الأقصى الفتحاويّة، وابن مخيّم جنين البار، من تحرير أنفسهم عبر حفر نفق في أرضيّة زنزانتهم بطَريقةٍ إبداعيّة غير مسبوقة، ستَدخُل التّاريخ، وربّما تتحول إلى فيلم سينمائي عالمي في يَومٍ من الأيّام يُسَجِّل هذا العمل البُطولي المُقاوم.
***
ما زالت أسرارًا هذه العمليّة وتفاصيلها شحيحة، لأنّ أجهزة الأمن الإسرائيليّة المَصدومة، والمُهانَة، التي أُصيبِت في مقتل، تتكتّم وتُخفِي الوقائع، ولكن المعلومات القليلة التي تسَرَّبت حتّى الآن، تُؤكِّد أننا أمام عَمَلٍ شُجاع مُحكَم الإعداد والتّنفيذ، ويطرح العديد من الأسئلة، أبرزها كيف تمّت عمليّة الحفر لأكثر من أربع أشهر وتهريب أدواتها وإخفاءها عن السّجّان في أكثر سُجون دولة الاحتِلال حِراسَةً وأمْنًا، وأين ذهب التّراب النّاجم عنها، وكيفيّة إبعاده عن عُيون العسس المُتَربِّصين؟ ومن الذي سرَّب الهاتف الذي جرى استِخدامه في الاتّصال مع خليّةٍ في الخارج لنَقل الأبطال المُحَرَّرين في سيّارةٍ تنتظرهم أثناء لحظة الصِّفر قُرب “الفتحة” النهائيّة؟ وهل سيتمكّن الأبطال المُحَرَّرون من عُبور الحُدود إلى الأردن أو سورية؟ أمْ أنّهم سيُنَفِّذون عمليّةً استشهاديّةً ضدّ أهدافٍ إسرائيليّةٍ في الدّاخل؟
الأيّام والأسابيع المُقبلة ستُجيب عن جميع هذه الأسئلة وغيرها، وما يُمكِن قوله الآن، إنّ هذه العمليّة البُطوليّة تُشَكِّل ضربةً قاتلةً لهيبة الحُكومة الإسرائيليّة، والمشروع الصّهيوني بشَكلٍ عام، وسجّلت فشَلًا أمنيًّا واستِخباريًّا ربّما يكون هو الأضخم مُنذ قِيام دولة الاحتِلال، قبل أكثر من سبعين عامًا.
صحيح أنّ هذه العمليّة الفدائيّة الهندسيّة بالغة الدقّة والإعداد تُشَكِّل إخفاقًا للأجهزة الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة، مثلما اعتَرف مُعظم المُحلّلين في الإعلام الإسرائيلي، ولكنّ الأصح أيضًا أنّ هذا الإخفاق ما كانَ يتَكشَّف ويتَأتّى لولا العقليّة النّضاليّة والجِهاديّة الجبّارة، وإرادتها القويّة، وقُدرتها على وضع خطّة الهُروب، وتنفيذها بدقّةٍ مُتناهية، والتَّكتُّم الشّديد على التّفاصيل، وعدم الإقدام على أيّ خطأ من شأنه أن يُؤَدِّي إلى فشلها.
من حقّ شُرفاء حركة “فتح” أن يفتخروا بالمُناضل الكبير زكريا الزبيدي الذي كان يومًا عُضوًا في مجلسها الثّوري، وقائدًا لكتائب شُهداء الأقصى ذِراعها العسكري، ومن حقّ حركة “الجهاد الإسلامي” أن تفتخر بمُجاهديها الخمسة الذين شاركوا في التّخطيط والتّنفيذ، فهذه العمليّة التي وحّدت التّنظيمين على أرضيّة المُقاومة والتّحرير الإبداعي تُؤرِّخ لمَرحلةٍ جديدةٍ من التّعاون والتّنسيق لعمليّاتٍ قادمة، ونتَضرّع إلى الله أن يحميهم، وكُلّ المُقاومين الأبطال من أمثالهم من التّنسيق الأمني الذي يُجَسِّد كُلّ أشكال العمالة والتّواطؤ مع دولة الاحتِلال، ومن بينها التَّجَسُّس على الشُّرفاء واعتِقالهم وتسليمهم.
هذه العمليّة التي جاءت بعد الانتِصار الكبير جدًّا لغزوة “سيف القدس وبعد بضعة أيّام من “قنص” جُندي من الوحَدات الخاصّة الإسرائيليّة على حُدود قِطاع غزّة، حقّقت جميع أهدافها العسكريّة والأمنيّة والنفسيّة، وسجّلت انتِصارًا كبيرًا ومُذِلًّا لدولة الاحتِلال وأجهزتها الأمنيّة، بغضّ النّظر عن التّبعات التي يُمكِن أن تترتّب عليها، والمُتعلّقة منها بالمحطّة النهائيّة لأبطالها المُحرَّرين، فالضَّرر لَحِقَ بهذه الأجهزة، ولن يُقَلِّل من شأنه إعادة القبض على هؤلاء المُحرَّرين الابطال (لا سمَح الله) فقد كَسِبُوا هذه المعركة بجَدارةٍ، وألحقوا ضررًا معنويًّا ضخمًا في أوساط المُستوطنين الإسرائيليين وحُكومتهم، وفرَضوا علامات استفهام كبيرة حول مُستَقبلهم، واستِمرار دولتهم.
***
جَميلٌ منظر أهلنا المُرابطين وهُم يَرقُصون فَرَحًا بهذا الانتِصار، ويتبادلون التّهاني ويُوَزِّعون الحلوى، وليس هُناك فرحة تعلو على فرحة الانتِصار على العدوّ في هذا الزّمن العَربي الرّديء.
دولة الاحتِلال التي كانت تَهزِم دُوَلًا وجُيوشًا عربيّةً جرّارةً في ساعات لم تَعُد قادرةً على هزيمة خليّة جهاديّة فِلسطينيّة حتّى داخِل زنازينها المُحكَمة الإغلاق والمُراقبة، المشهد يتغيّر بسُرعةٍ، والمارد الفِلسطيني غيّر، وسيُغيِّر، الكثير من المُعادلات القديمة والحديثة، ولعلّ هذا التّنسيق الوطني المُشَرِّف المُقاوم، بين كوادر فصائل المُقاومة ورجالها، الذي تجلّى بأبهى صُوره بين “فتح” و”الجهاد الإسلامي” خلف القُضبان سيكون العُنوان الأبرز لتَنسيقٍ أوسع يشمل كُل فصائل المُقاومة في المرحلة المُقبلة.. والأيّام بيننا.
* المصدر : رأي اليوم