تزايدت مؤخراً هواجس المؤسسة الصهيونية ومخاوفها من تحولات البيئة الإقليمية. وقد تلاحقت المفاجآت والصدمات في الأعوام الأخيرة بانضمام العراق واليمن إلى جبهات الصراع، التي تستدعي جهوداً خاصة استخباراتية وعسكرية وقائية، لتقصّي نسيج التشبيك الذي تحيكه القيادة الإيرانية، بالشراكة مع بقية قوى المحور وفصائله وحكوماته المتقاربة المتناغمة والطامحة إلى تطوير شراكاتها الاقتصادية العابرة للحدود، كما برهنت الوقائع ببراغماتية لافتة، بحيث تمّ جذب مصر نحو التشبيك الإقليمي مع سورية ولبنان بقوة الجغرافيا والمصالح الاقتصادية، رغم قيود "كامب ديفيد"، بينما الصهاينة يشعرون بالغيظ والكمد والعجز.
أولاً: الفعل الواقعي للشراكات الاقتصادية بين دول المشرق، وانعكاسه الاستراتيجي، يعادل ويتخطى فعل التحول إلى محور عسكري مقاتل في حسابات الثكنة الصهيونية المسلحة حتى الأسنان بأشدّ ترسانات الفتك والقتل الغربية بطشاً وتدميراً، والتي يمسكها من الحزام فتيان فلسطين، وتشلها صواريخ حزب الله، فتكتّفها بالردع القاهر، بينما يزلزلها هول الصدام مع قوة إيران الهادرة عسكرياً وتكنولوجياً، في حين تراقب، بوجوف وخوف شديدين، مؤشرات تعافي سورية ونهوضها. ومعنى التكتّل الاقتصادي العابر للحدود بين دول المحور، هو ترسيخ دعائم الاستقلال عن الغرب، وتطوير البنى الاقتصادية المنتجة والشراكات التي تعزّز درجة التماسك والتلاحم، وتعطل رهان الاستفراد ووهم الخنق الاقتصادي والمالي. وسيكون تراكم العوامل والتحولات الناشئة نذيراً بوضع استراتيجي جديد في المنطقة، يستشعر الخبراء الصهاينة آفاقه ووعوده القريبة والبعيدة، وهم عاجزون عن وقفه بعد تراكم قدرات محور المقاومة وتطورها النوعي.
ثانياً: إن التاريخ أنضج شروط التحول المنتظر، الذي أخّرته السياسات والضغوط الاستعمارية والتدخلات القاهرة وطوابير العمالة لعقود، وعندما توافرت الإرادة والوعي والمبادرة، تهاوت مجموعة عقد، مرة واحدة، في مسار انفكاك وانحلال. فلم يتخيّل أيٌّ من دعاة التحرّر والتكتّل في المشرق وأنصار ورواد مذهب الوحدة العابرة للحدود سرعة التحولات، التي شهدناها مؤخراً، وجاءت الوقائع لتثبت أصالة الظرف التاريخي، ونضج القرارات الطلائعية الحكيمة، التي التقطت اللحظة، لتحدث النقلة المستحقة، وتختصر المسارات، وتسحق مماحكات واعتراضات وعمليات تشويش وعرقلة وتخريب في جميع البلدان المعنية وحولها. وبينما تسارعت خطى البلدان المعنية في التلاقي والتفاهم، ساد الخبل الدوائر الصهيونية، وخيمت عليها صدمة مذهلة، يفاقمها العجز عن التعطيل أو المشاغبة. وهكذا ارتسمت خطوط وصل وبشائر تكتّل وشراكات مرشحة للنمو والتوسّع عمودياً وأفقياً من سطح الأزمات إلى عمق التكتّلات الواعدة.
ثالثاً: تبرهن لنا التجربة الواقعية أن حقائق الحياة أسرع فعلاً وأعمق تأثيراً من أي عنصر آخر في التطور التاريخي، ولو كان أيٌّ من رواد الوحدة القومية ومنظريها في منطقتنا حيّاً، لما وجد شاهداً أبلغ ولا برهاناً أقوى من جبرية التكتّل العابر للكيانات تحت وطأة التحديات، وإعادة اكتشاف أن خريطة "سايكس بيكو" كانت ضد التاريخ والطبيعة، دافعها السيطرة والنهب والاستعمار والتمهيد لزرع الكيان الغاصب في فلسطين، لتفتيت الشرق وإخضاعه. وكم نتذكّر اليوم جمال عبدالناصر وحافظ الأسد والإمام الخميني، رواد التحرّر والشراكة في شرقنا الناهض، بعد طول ركود وخمود، ونلتفت إلى فعل المقاومة الأسطورية والدماء الزكية والإبداع الاستراتيجي لقائد المقاومة في تحويل التهديدات إلى فرص، وسط إعجاب الحلفاء وانبهار الأصدقاء وذهول العدو وخبله، بينما البيئة الإقليمية تتغير، وتنحو في مسار صاعد، يعانق المستقبل بآفاق واعدة بعد الكوارث والحروب والحصار.
كاتب لبناني
* نقلا عن : لا ميديا