أليس الموضوع من بدايته هو حول أن نعرف كيف نتولى الله سبحانه وتعالى؟ كيف نتولاه؟ إذا عرفت وتذكرت عظيم نعمته عليك سترى بأنه هو وحده من يجدر بك أن تتولاه، وألا تتولى غيره، فكل أولياء تبحث عنهم دون الله سبحانه وتعالى من أولئك البعيدين عن هدايته وصراطه، الله قد ضرب لهم مثلًا {مَثَلُ الَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِ اللَّهِ أَولِياءَ كَمَثَلِ العَنكَبوتِ اتَّخَذَت بَيتًا ۖ وَإِنَّ أَوهَنَ البُيوتِ لَبَيتُ العَنكَبوتِ} (العنكبوت: من الآية41) كلهم وهميون، ما يدفعك نحو توليهم؟ أنك تبحث عن العزة، أو تبحث عن القوة، أو تبحث عن الرزق، أو تبحث عن أي شيء من المطامع؟ فاعلم بأنك كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتًا، تعمل في البيت وتمد الخيط من هنا إلى هنا وتعمل النسيج الذي هو أوهى الأنسجة، بيت لا يدفع عدوًا، ولا يدفع بردًا، ولا يدفع حرًا، ولا يعمل شيئًا، أحيانًا ترجع فقط تستغله في الأخير ليكون شبكة صيد.. {وَإِنَّ أَوهَنَ البُيوتِ لَبَيتُ العَنكَبوتِ}، لكن الله عندما تتولاه تتولى القوي العزيز، تتولى من أنت تحظى برعايته، من هو على كل شيء قدير.
لن تترسخ في أنفسنا معرفة الله سبحانه وتعالى، ولن نصل إلى درجة أن نكون من أوليائه حقًا إلا إذا كنا ممن يتذكر نعمه علينا، نعمة الهداية، والنعم الأخرى التي نملكها والتي لا نملكها مما نحن جميعًا نتقلب فيها؛ لهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النّاسُ اذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم ۚ هَل مِن خالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ ۚ لا إِلٰهَ إِلّا هُوَ ۖ فَأَنّىٰ تُؤفَكونَ} (فاطر:3) إلى أين تتجهون؟ وإلى أين ستنصرفون؟ تبحثون عمن؟ تبحثون عن أمريكا، تبحثون عن بريطانيا، تبحثون عن هذا الرئيس، عن هذا الملك، عن هذا الزعيم، عن هذا التاجر، هل هناك أحد يملك لكم رزقًا؟ يملك لكم ضرًا؟ يملك لكم نفعًا؟ {فَأَنّىٰ تُؤفَكونَ} إلى أين أنتم رائحين؟! تنصرفون عن إلهكم الذي أنعم عليكم الذي يرزقكم من السماء والأرض والذي هو وحده الإله {لا إِلٰهَ إِلّا هُوَ ۖ فَأَنّىٰ تُؤفَكونَ}.
كل هذه المعاني الهامة التي تخلق في نفسك متى ما وعتها دافعًا قويًا نحو تولي الله سبحانه وتعالى هي تبدأ بتذكر نعمه {اذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم} متى ما ذكرت نعمته عليك عرفت بأنه هو وحده الخالق، هو من يرزق من السماء والأرض، هو الذي لا إله إلا هو، إذًا فلن أنصرف إلى هذا ولا إلى هذا، سأتولاه هو.
يقول أيضًا سبحانه وتعالى: {وَالَّذي خَلَقَ الأَزواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُم مِنَ الفُلكِ وَالأَنعامِ ما تَركَبونَ} (الزخرف:12) السفن والأنعام من الإبل والخيل والبغال والحمير ما تركبون {لِتَستَووا عَلىٰ ظُهورِهِ ثُمَّ تَذكُروا نِعمَةَ رَبِّكُم إِذَا استَوَيتُم عَلَيهِ وَتَقولوا سُبحانَ الَّذي سَخَّرَ لَنا هٰذا وَما كُنّا لَهُ مُقرِنينَ (13) وَإِنّا إِلىٰ رَبِّنا لَمُنقَلِبونَ (14)} (الزخرف:13- 14).
لأهمية تذكر النعم يريد منك أن تتذكر نعمته عليك حتى عندما تستوي على ظهر حمارك لتركبه، وافهم أنك أنت الحيوان الوحيد الذي يسخر حيوانًا آخر ليركبه فينقله إلى مسافات بعيدة. هل هناك حيوانات أخرى يسخر لها حيوانات أخرى تركبها؟ كل واحد يمشي على رجليه، لكن الإنسان هو وحده يسخر الله له مخلوقات هي أقوى منه، بل هي أزكى وأعظم من كثير من أفراده الذين قال عنهم: {إِن هُم إِلّا كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ} (الفرقان: من الآية44). حيوان يقوده الطفل، يركب عليه طفلك وهو فيما لو توحش لأزعج سوقًا بأكمله، الجمال، الخيل، البغال، الحمير، البقر، كم سخر للإنسان من حيوانات أخرى!
تعال إلى حيوان آخر ليس مسخرًا لك تحاول تركبه، امسك [النمر] أليس أصغر من الحمار؟ حاول تركب النمر هو يحاول يأكلك ما هو حول يتركك تركبه، لكن الجمل، الثور، أليست هذه الحيوانات هي أكبر منا وأثقل وزنًا وأقوى في أبدانها؟ أليست أقوى منا بكثير؟ من الذي سخرها؟ هو الله تكريمًا لك، رحمة بك، رعاية لك، لكي تحمل أثقالك عليها، ولكي تحمل نفسك عليها فتنتقل من هنا، إلى هناك، إلى هناك لمسافات بعيدة فتذكَّر نعمة الله عليك.
ثم عندما يقول: {لِتَستَووا عَلىٰ ظُهورِهِ} يقصد أن تركب بارتياح، جلسة مريحة، لا يخلق لنا حيوانات يكون التنقل عليها متعبًا {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ – تذكروا نعمة ربكم – إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} عندما تتذكر بأن الله هيأ ظهور الخيل، وظهور الإبل، وظهور الحمير، بالشكل الذي يتلاءم معك لتستوي وأنت راكب عليه، في وضعية طبيعية، لو أنه سخر حيوانًا آخر لا يمكن أن ينقلك من منطقة إلى منطقة إلا وأنت متعلق في رقب الجمل، وضعية متعبة هذه. {لِتَستَووا عَلىٰ ظُهورِهِ}، ويحس بك أنك فوق ظهره فلا ينزعج، بل ربما قد تكون بعض الحيوانات تألف صاحبها حتى ترتاح عندما تحس بأنه فوق ظهرها، فتنطلق وتشعر بالطمأنينة، وهو مستقر فوق ظهرها. إذًا فاذكروا نعمة ربكم حتى عندما تستووا على ظهورها، وقولوا: {سُبحانَ الَّذي سَخَّرَ لَنا هٰذا وَما كُنّا لَهُ مُقرِنينَ} (الزخرف: من الآية13) ما كان باستطاعتنا أن نسخره لأنفسنا، وأن نتغلب على وحشيته فنقهره ونطوعه لحاجتنا.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم وَما أَنزَلَ عَلَيكُم مِنَ الكِتابِ وَالحِكمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ} (البقرة: من الآية231) {وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا} (آل عمران: من الآية103) {وَكُنتُم عَلىٰ شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها ۗ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ} (آل عمران: من الآية103) هذه هي من النعم، إنزال الكتاب بما فيه من حكمة، بما فيه من مواعظ، هي نعمة عظيمة.
كـذلك يقول: {وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً} هـذه الآية جـاءت بعـد قوله تعالى آمـرًا لعباده: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ (102) وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا ۚ وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا وَكُنتُم عَلىٰ شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها} (آل عمران:102-103) كنتم قد أشرفتم على السقوط في جهنم فأنقذكم منها، بهدايته، بالرسول العظيم الذي بعثه إليكم، بالكتاب الكريم الذي أنزله إليكم، برعايته، بلطفه، برحمته، {كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ}.. فاذكروا نعمته لتهتدوا في الأخير إلى ما يريد الله سبحانه وتعالى أن تهتدوا إليه.
في هذه الآية.. لاحظوا كيف يأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتذكر كيف كانت وضعيتنا السابقة، هكذا يقول لأولئك الذين نزلت الآية تحكي واقعًا كانوا عليه، ثم تحول بإذن الله وبأمره وبنعمته إلى واقع آخر، يوم كانوا أعداء يخرجون بين الحين والآخر ليقتتلوا خارج المدينة، عداوة كانت بين الأوس والخزرج شديدة، عندما هاجر الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) إليهم، وعندما استقر وضعه هناك بين أظهرهم وهيأهم ليكونوا هم أنصار دينه ليكونوا هم جند الله.. جاءت الألطاف الإلهية جاء التدخل الإلهي فألف بين تلك القلوب التي كانت ممتلئة بالعداء بالعداوة والبغضاء لبعضها بعض، كما حكى في آية أخرى: {وَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِهِم ۚ لَو أَنفَقتَ ما فِي الأَرضِ جَميعًا ما أَلَّفتَ بَينَ قُلوبِهِم وَلٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَينَهُم} (الأنفال: من الآية63) هذه فيها عبرة عظيمة لنا، وعبرة عظيمة لكل من ينطلق في إرشاد الناس ويتوجه نحو الأخلاقيات: [يجب علينا أن نحب بعضنا بعض، وأن نتآخى، وأن نكظم الغيظ، وأن نعفو، وأن.. وأن..] إلى آخره.
افهم، ولنفهم جميعًا أن كل شيء سيكون مجرد كـلام إذا لم نحقق المفتاح، إذا لم نحمل الهم الكبير في أن نكون من أنصـار دين الله سبحانه وتعالى، فهو هـو الـذي سيوفقنا، ويؤلف بين قلوبنا، ويملأها حبـًا لبعضها بعض.
كم أرشدنا، كم وعظنا نحن وغيرنا وتكلمنا كثيرا عن المحبة، وكم قرأ الناس الحديث عن الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله): ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) كم دعي الناس إلى حسن التعامل فيما بينهم، وإلى الإنصاف من أنفسهم، وإلى المبادرة إلى حل مشاكلهم سريعًا قبل أن تورث العداوة والبغضاء فيما بينهم، ولكن لما كان الناس غير مستشعرين للمسؤولية العظيمة عليهم فيما يتعلق بدينهم أن يكونوا أنصارًا له، أن يحملوا روحية القرآن بين جنوبهم – تقريبًا – لم يوفقوا، لم نوفق، متى خرج الناس من المسجد وقلوبهم ممتلئة حبًا لبعضهم بعض بعد خطبة يسمعها مني أو من هذا أو من ذاك.
البعض يقول: لماذا لا تركزون على جانب الأخلاق، وتأمرون الناس بأن يكونوا فيما بينهم متآلفين، متحابين وينصفون بعضهم من بعض، ويحلون مشاكلهم سريعًا قبل أن تتحول إلى مشاكل تورث العداوة والبغضاء فيما بينهم.
من وجهة نظرنا – فيما نعتقد – لن يتحقق لنا هذا ما لم نحمل همًا كبيرًا هو: أن نجند أنفسنا لله، وأن نستشعر المسؤولية الكبيرة أمام الله بأن نكون من المجاهدين في سبيله، وممن يعمل على إعلاء كلمته، متى ما حصل هذا وأصبح همًا لدينا، وأصبح كل شخص يستشعر المسؤولية في هذا فهو – وبتوفيق الله وألطافه – سينطلق بحرص على أن تكون علاقته مع أخيه، مع صاحبه، مع جاره علاقة حسنة، يعزز كل العوامل التي تخلق المحبة في أنفسهم لبعضهم بعض، يحرص على أن لا تنطلق من فمه كلمة تجرح مشاعر أخيه، ومتى ما بدرت منه زلة أسرع إلى الاعتذار، ومتى ما أحد أخطأ عليه كظم غيظه، أو عفى عنه، ومتى ما اعتذر أخوه قبل عذره، يتعامل الناس مع بعضهم بعض بأخلاق حسنة، وبنصح، وبمودة، وبإخلاص.
الله سيتدخل كما صنع لأولئك الذين كانوا يخرجون يتقاتلون خارج المدينة، فألف بين قلوبهم، عندما استجابوا للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) استجابة أولية، أنهم مستعدون أن ينطلقوا تحت رايته، فيقول أحد كبارهم: امض يا رسول الله، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه، ولن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدونَ} (المائدة: من الآية24) بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. ألف الله بين قلوبهم، وأنقذهم.
نحن نلمس أنما يذكَّر الناس به من الأخلاق الكريمة في خطب الجمعة وغيرها من المواعظ كلها مجرد تذكير لا يقدم ولا يؤخر ولا يخلق في أنفسنا شيئا.
يجب أن نذكِّر بهذه الأخلاق الكريمة، أنها مهمة، وهي في حد ذاتها تعتبر طاعة من طاعات الله العظيمة. ولكن يجب أن نفهم أيضًا أن من أبرز غاياتها هي أنها تخدم عملية وحدة المؤمنين فيما بينهم، تلك القضية التي لا بد منها في تحقيق المسؤولية الكبيرة عليهم لدين الله سبحانه وتعالى، أن يكونوا من يعمل على نصر دينه، من يعمل على إعلاء كلمته، من يدافع عن دينه، نفهمها على هذا النحو، أما أن نتوقع أنها ستتحقق لنا، فنحن قد جربنا أنفسنا، وأعتقد كل الناس قد جربوا أنفسهم، من هو الذي لم يسمع كلامًا كثيرًا من هذا النوع في خطب الجمعة وغيرها، عن الأخوة والمحبة والألفة والتعامل الحسن وكظم الغيظ.. و.. إلى آخره، نتحدث عنها كطاعات مفردات من الطاعات، لا نتحدث عن غايتها المهمة التي تكشف عن أهمية ذلك المبدأ الذي كل هذه التشريعات تتجه نحو تهيئة الأمة لتكون بمستوى أن تنهض به.
فما لم نحمل هذا الهم – فيما أعتقد وفيما أرى – لن يتحقق لنا شيء في واقع أنفسنا، ومتى ما حملنا هذا الهم الكبير، ومتى ما شعرنا بالمسؤولية الكبيرة، فإن من المتوقع فعلًا أن يتدخل الله، فهو هو الذي يقدر على أن يؤلف بين قلوبنا، على أن يملأ قلوبنا حبًا لبعضنا البعض، على أن يؤتينا الحكمة في تصرفنا مع بعضنا بعض، هكذا قال عن أولئك: {وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً}.
نحن لسنا أعداء فيما بيننا أليس كذلك؟ لكن نفوس متباينة، وكل واحد يشعر بأنه لا رابط له بالآخر إلا مجرد الالتقاء اليومي في السوق، أوفي المسجد، لا غير، لقد تدخل الله سبحانه تعالى فمنَّ على أولئك بنعمة كبيرة الذين كانوا أعداء {أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم} هل تعرفوا ماذا تعني كلمة الألفة؟ ألفت، أصبحت متآلفة، وليس فقط انتزع منها العداء فأصبحت طبيعية كما نحن عليه، أصبحت قلوبًا متآلفة، ومتى ما تآلفت القلوب عظمت الثقة فيما بين الناس لبعضهم بعض، أصبحوا كيانًا واحدًا، أصبحوا كتلة واحدة، أصبح كل شخص منهم ينصح للآخر، ويخلص له، ويخدم ضميره، ويتألم له، يشترك هو معه في موقف من المواقف فلا يتخلى عنه، يحبه يوده، قلبه يألف قلبه، أصبحت القلوب متآلفة، أي لا يألف قلبي أن يظل منفردًا لوحده، يريد أن يبقى مع تلك القلوب التي ألفها.
القلوب تتآلف فتحب أن تجتمع متى ما ألف الله بينها، كما تحب أن تجتمع بصديق لك يوميا، تجلس معه، تجلس [تخزن] معه يوميًا، فإذا ما غاب تصبح جلسة القات [تخزينة] ما أعجبتك {فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا} من خلال ما هداكم إليه، فجعل له فاعلية في أنفسكم، وبتدخله وإمداده الإلهي الغيبي.
هذه القضية إذا لم نهتم بها فلو – فيما أعتقد – نجلس في هذا المجلس يوميًا يوميًا سنين طويلة سننسى كل شيء.. ننسى في هذا اليوم ما سمعناه مثل اليوم وهكذا، ونبقى نحن أولئك الأشخاص الذين ننظر إلى بعضنا بعض نظرات عادية.
لا نحن متوحدون ولا متفرقون، ولا مختلفون ولا متفقون، كل واحد لوحده، تجمعنا الشمس عندما تطلع فنتحرك ونتلاقى في الطريق، السلام عليكم، وعليكم السلام، وفي السوق نشتري حاجات بعضنا بعض، وكل واحد يرح بيته، نخرج نصلي في المسجد جميعًا، أو نصلي فرادى، وكل واحد يرجع بيته، لا نلمس بأن هناك شيئًا يجمع بيننا، ويهمنا جميعًا، لاهتمامنا المشترك به أصبحت قلوبنا متآلفة في ظله فيرتاح الواحد منا عندما يلقى أخاه في المسجد، أو في السوق، أو في الطريق فيصبح حتى للحياة مذاق آخر.
أعتقد أن بعض الناس في القرى يعيشون في واقع حياتهم غرباء، عندما يكونون غير متآلفين فيما بينهم، بل يعيشون أسر يحتاجون إلى [اتفاقيات مكتوبة] لكف الأذى عن بعضهم بعض.
وفي كل أسبوع، أو في كل يوم تقريبًا تظهر مشكلة من هنا ومشكلة من هنا، وكل واحد يرى بأنه فقط قدره أن يكون في هذا البيت داخل هذه القرية.
تصبح الحياة تعيسة.. ترى الآخرين في المسجد لا يمثلون لديك شيئًا، إذا لم تستأ من رؤيتهم ومن لقائهم فقد لا يمثلون لديك أي شيء، منظر طبيعي، لكن متى ما تآلفت النفوس تعيش في حياة سعيدة ترى أصدقاء، ترى إخوانًا، تدخل المسجد فترتاح برؤية إخوانك، تخرج إلى ساحات القرية فترتاح برؤية إخوانك، تمشي معهم في السيارة فترتاح بالمشي معهم، في السوق تلقاهم فترتاح بلقياهم، تعيش حالة من الحياة لها طعم لها مذاق.
نحن بعد لم نعرف، لكن من خلال ما نتصوره قياسًا على أمثلة في واقع حياتنا عندما يكون لك صديق معين تحبه ألست ترتاح عندما تراه؟ وقد لا تكون صداقتكم مع بعضكم بعض تبلغ درجة الأخوة الإيمانية، لكنك ترتاح عندما تلقاه.
هذا أثره فيما يتعلق بالحياة جميل، فيما يتعلق بالنفوس، يجعل الحياة سعيدة بين الناس، وهم في قراهم، في مساجدهم، في تجمعاتهم، في أسواقهم، في طرقاتهم، وضعية تغيب فيها المشاكل، وضعية تختفي فيها الكثير من الإشكاليات التي سببها ومنشؤها التباين فيما بين النفوس، والوحشة فيما بين القلوب.
فكلمة من هذا تغرق هذا، سوء ظن، أو فهم خاطئ لعبارة منه تشكل مشكلة في القرية أو مشكلة بين أسرتين.
لذا يجب علينا – أيها الإخوة – أن نعرف من أين نأتي لأنفسنا، من أين نأتي لقلوبنا حتى تتآلف وتتوحد، أما إذا كنا لا يهمنا هذا ونجتمع لمجرد الاجتماعات، وحديث لمجرد الحديث، وكلام لمجرد الكلام فقد نقضي فترات طويلة لا نستفيد شيئًا.
من العجيب أن تجد آية تحكي، عندما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى: {يَا موسىٰ إِنِّي اصطَفَيتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتي وَبِكَلامي فَخُذ ما آتَيتُكَ وَكُن مِنَ الشّاكِرينَ} (الأعراف: من الآية144) يقول لنبيه موسى وهو ذلك الرجل العظيم الذي قطع على نفسه عهدًا {رَبِّ بِما أَنعَمتَ عَلَيَّ فَلَن أَكونَ ظَهيرًا لِلمُجرِمينَ} (القصص: من الآية17) من أجمل ما قاله الأنبياء جميعًا، هذه الكلمة التي قالها موسى (صلوات الله عليه)، من أجمل وأعمق الكلمات التي قالها الأنبياء فيما تدل عليه من مشاعر الارتباط القوي بالله سبحانه وتعالى، وإدراك عظم النعمة التي أنعم الله بها عليه، وقد كان ذلك قبل النبوة. ما هي هذه النعمة؟ قد يكون أكثر ما نلمسه في هذا الجانب هو أنه توفق إلى أن يقف موقف حق، وأن يعلن كلمة حق، وأن يقارع الظالمين.
الآية هذه جاءت بعد قصة قتل القبطي الذي من قوم فرعون {رَبِّ بِما أَنعَمتَ عَلَيَّ فَلَن أَكونَ ظَهيرًا لِلمُجرِمينَ} لن أكون مساعدًا، لن أكون معينًا للمجرمين طيلة حياتي، وفعلًا صدق، يقول الله له وهو من هو في إدراكه لنعم الله، وفي وقعها العظيم على نفسه يقول الله عندما أخبره بأنه قد اصطفاه برسالته وبكلامه وأنزل إليه التوراة {فَخُذ ما آتَيتُكَ وَكُن مِنَ الشّاكِرينَ} كن من الشاكرين لهذه النعمة، كما قال لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله) محمد {وَكانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظيمًا} (النساء: من الآية113) وقال لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله) محمد بن عبد الله وهو سيد الأنبياء والمرسلين: {بَلِ اللَّهَ فَاعبُد وَكُن مِنَ الشّاكِرينَ} (الزمر:66) كن من الشاكرين، وهل تظنون بأن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كان يتوفر له من الطعام والشراب كما يتوفر لأحدنا يأكل كل يوم خبز البر، ويأكل اللحم، ويأكل مختلف أنواع الأطعمة.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن
معرفة الله – الدرس الرابع
ألقاها السيد حسين بدر الدين الحوثي
بتاريخ: 21/1/2002
اليمن – صعدة
* نقلا عن : موقع أنصار الله