خلالَ الأسبوع المنصرم تداوَلَ الإعلامُ خبرين جديرين بالوقوف أمامهما، أولهما: من داخل أمريكا نفسها، حَيثُ خرج بيان عن الخارجية الأمريكية يوضح تفاصيل اللقاء بين وزيري خارجية سلطنة عمان ووزير خارجية أمريكا، وأكّـد البيان على الشراكة الاستراتيجية والتاريخية بين السلطنة وأمريكا، وقال باستحالة الحل العسكري في اليمن، وأكّـد على دعم وحدة اليمن وسيادته واستقلاله، وأعلن البيان عن توافق الطرفين في إطلاق الحوار الاستراتيجي بين بلديهما.
وثانيهما: خبر زيارة السفير الأمريكي لحضرموت خلال سوالف الأيّام، ولم تكن زيارته الأولى طبعاً، بل سبقتها زيارة، وتأكيده على دعم الحكومة اليمنية من حضرموت، وقد أصبح معروفاً للمتأمل في مساقات ومسارات السياسة الأمريكية نهجها وطرق وأساليب تعاملها مع الملفات، ولذلك تلجأ إلى التضليل، فالحوار الاستراتيجي الذي أعلن عنه بيان الخارجية الأمريكية يخص حضرموت بالتحديد وبعض القضايا ذات البعد الاستراتيجي بين السلطنة وأمريكا، ويبدو أن في بال أمريكا مساراً سياسيًّا جديدًا تريد تنفيذه في المحافظات الجنوبية بدأت مؤشراته من خلال حالة القمع التي تحد من طموح الانتقالي حتى يصل إلى مرتبة العنصر الخامل في المعادلة الجنوبية، فالزبيدي الذي شطح ونطح خلال الأشهر الماضية تم توقيفه بطريقة مهينة في السعوديّة حتى عرف قيمة نفسه ثم قيل إنهم سمحوا له بالطيران إلى الإمارات لكنه ممنوع من العودة إلى عدن، وقد سبق أن نفذوا ذات السيناريو مع نائبه السلفي المتلون هاني بن بريك الذي سمحوا له بعد فترة غياب في الإمارات بالعودة إلى عدن لكن عاد محملاً بكل إرثه وتاريخه مع التزام بالصمت.
نشاط أمريكا اليوم في حضرموت سيكون خارج شطرنج الانتقالي وبالشراكة الاستراتيجية مع السلطنة -لا نستغرب– فالسياسة لعبة مصالح وهي في مسار الأقوى والفاعل، أما الأضعف فلا قيمة له في موازين اللعبة، ولذلك فالتواتر في الاهتمام بين واشنطن وحركة السفير لا يمكن أن تكون عفو الخاطر، ولكن ثمة أمر يتم الاشتغال عليه فالرموز التي يبعثها الواقع تفصح عنه بكل جلاء ووضوح، فالصوت العالي الذي بدأ يتعالى بالهُــوِيَّة التاريخية لحضرموت، وعدد الفضائيات الذي يتخذ من حضرموت موضوعاً وغاية وهدفاً زاد خلال الآونة الأخيرة بشكل ملفت للنظر، فهناك قناتان باسم حضرموت وقناة باسم المكلا، وهناك قناتان باسم المهرة، والخطاب السياسي الحضرمي بدأ يعلو وقد لزم الصمت خلال سنوات العدوان وارتفع منذ زمن الهُــدنة، والوضع العسكري والتواجد الأمريكي في شوارع المكلا أعلن عن نفسه خلال الأشهر المنصرمة، وتزايد الاهتمام الأمريكي بالمحافظة فخلال زمن وجيز ينفذ السفير الأمريكي زيارتين لحضرموت، وبالتزامن مع نشاط دبلوماسي تنفذه الخارجية الأمريكية، ولذلك ففكرة التأكيد على وحدة اليمن واستقلاله وسيادته فكرة مضللة كدأب الرسمالية في مسارها السياسي فهي تعني الترتيب لاستقلال حضرموت والاعتراف بها كدولة ذات سيادة؛ باعتبَارها تمتاز بهُــوِيَّة تاريخية وثقافية وحضارية خَاصَّة، وقد بدأ العلم الحضرمي يرفرف في الكثير من المحافل التي تقام على أرضها، وفي تقديري أنه يتم التخطيط لدولة حضرموت التي سوف تضم المهرة وجزيرة سقطرى من باب الحرص على تدفق مصادر الطاقة الخليجية عبر بحر العرب والمحيط الهندي، كما أن السيطرة على الجهة المشاطئة للضفة الأُخرى التي تتواجد فيها الصين وبالتحديد في ميناء غوادر قد يحدث توازناً في المصالح، وقد يستخدم كحالة ضاغطة على طموح الصين في خط الحرير التجاري الذي تعمل على تحقيقه وقد بدأت خطواته الأولى.
المحافظات الجنوبية وفق الطبائع التاريخية لا يمكنها التسليم للانتقالي كما لا يمكنها لاستقرار والتوحد، ولذلك فحالة الاضطراب والقلق يعول عليها المستعمر الجديد في تحقيق أهدافه في الجنوب، كما أن تأمين باب المندب من أوليات اهتمامه فهو يرى أن الصراع في الساحل الغربي ومضيق باب المندب سيترك أثراً غير محمود على حركة الملاحة لذلك أنشأ قواعد عسكرية في جزيرة ميون وعمل على توفير عوامل الاستقرار في المخاء، فقد عمل على بناء وحدات سكنية وبمواصفات حضرية حديثة، وهو اليوم بصدد تهيئة ميناء المخاء وفق أرقى المواصفات الحديثة، يعمل ذلك بعيدًا عن الإعلام ويرى ذلك عملاً استراتيجياً مهما فهو يخطط متى يكشف عن ذلك؟ وكيف؟ وقد سرب المجسم الهندسي للميناء لوسائل الإعلام.
الموضوع صراع مُستمرّ، وأمريكا ليست حريصة على وحدة اليمن ولا استقلاله ولا سيادته ولكنها حريصة كُـلّ الحرص على السيطرة والهيمنة وعلى مصالحها في ظل غياب كلي للوعي عند النخب في الجنوب وعند القوى السياسية على وجه العموم، فالتاريخ يقول: إن المحافظات الجنوبية أكثر المناطق اليمنية تقبلاً للمستعمر في حين ترفض هذا التواجد المحافظات الشمالية، واستناداً إلى البعد التاريخي أتوقع أن يفرض المستعمر شروطه على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في الجنوب مستغلاً العداء الطائفي والفوارق الطبقية، ولن نتمكّن من الخروج من هذا المأزق إلا بالمعرفة والوعي.
نحن اليوم أمام معركة جديدة أدواتها الوعي والمعرفة بعيدًا عن الاتكال، فهل نستوعب طبيعة المعركة أم نظل ندور في ذات الدوائر التاريخية من الضياع؟