فـي 19 أيار/ مايو 2021، وصفت زعيمة "الحزب الجيد" التركــي، مارال أكشانــار، رئيسَ الوزراء "الإسرائيلي"، نتنياهو، بأنــــه "النمــوذج الإسرائيلـي لأردوغان"، وأضافــت: "لا فــرق بين نتنياهو الَّذي فعل كل شيء للبقاء في السلطة، وأردوغان الذي فعل ويفعل كل شـيء لإسكــات المعارضة".
واتهمت أكشانار الرئيس أردوغـان بـ"الريـاء وإطلاق شعارات حماسية للتضامــن مــع الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي كان نتنياهو يقتل الفلسطينيين يومياً"، وناشدته "اتخاذ موقف عملي ضـــد جرائـــم نتنياهو إذا كان صادقاً في تهديداته لإسرائيل"، وقالت: "كفـاك عويلاً وصراخاً. إذا كنت جاداً، قِفْ وقفة الرجال، ولنقم بما يجب القيام به لوضع حــدٍّ نهائــي لجرائمـه".
تصريحات أكشانار هذه أثارت آنذاك ردود فعل عنيفة لدى أردوغان، الذي وصفها بأنها "عديمة الأخلاق ومسكينة لا تعرف مكان فلسطين في الخارطة"، وقال إنَّ فؤاده "يدمى لما يعانيه الشعب الفلسطيني".
وقد جاء الرد سريعاً من أكشانار على أقواله، فقالت: "المسكين هو الذي يقول منذ 9 سنوات إنه سيزور غزة، ولكنه لا يستطيع... والمسكين من يعلّق على رقبته وسام الصهاينة، والمسكين من يقول كلاماً فارغاً، ثم لا يفعل أيّ شيء".
قبل هذه المشادة الكلامية بين أكشانار وأردوغان، كان للأخير العشرات، إن لم نقل المئات، من التصريحات النارية التي استهدفت نتنياهو شخصياً، والكيان الصهيوني عموماً، إذ قال عنه إنه "مجرم وقاتل وإرهابي وعنصري وفاشي" وغيرها من هذه الصفات التي يستحقّها الكيان المذكور بجدارة. فماذا حصل بعد ذلك؟
في تموز/ يوليو 2021، اتصل أردوغان بإسحاق هرتسوغ، وهنأه لمناسبة انتخابه رئيساً للكيان الصهيوني. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، اتصل هاتفياً برئيس الوزراء بينيت. في آذار/ مارس 2022، وصل هرتسوغ إلى أنقرة في زيارة رسمية، واستُقبل استقبالاً حافلاً ومميزاً. وفي أيار/ مايو 2022، زار وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو "تل أبيب"، وبحث مع نظيره "الإسرائيلي" لابيد تحقيق نقلة نوعية واستراتيجية في العلاقات بين البلدين. وبعد شهر، ردَّ الوزير لابيد على هذه الزيارة واستقبله أردوغان.
في أيلول/ سبتمبر 2022، وعلى هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، التقى أردوغان لابيد، وهذه المرة بصفته رئيس وزراء الكيان الصهيوني. وبعدما اجتمع مع قيادات 50 منظمة يهودية صهيونية أمريكية ورجال الأعمال اليهود، دعاهم إلى الاستثمار في تركيا.
وفي 6 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قام أردوغان بتعيين سفيره الجديد في "تل أبيب" بعدما تجاهل طيلة الفترة الماضية كل ما قامت به "إسرائيل" يومياً من قتل وإجرام ضد الشعب الفلسطيني، فيما اكتفت وزارة الخارجية بإصدار بيانات استنكار خفيفة اللهجة ضدّ "تل أبيب".
وجــاءت زيــــارة وزيـــر الأمـــن "الإسرائيلي" غانتس لأنقرة ولقاؤه أردوغان في 27 الشهر الماضي لتضع النقاط على الحروف في مضمون العلاقات التركية "الإسرائيلية" ومستقبلها، والتي دخلت مساراً جديداً بوساطة شخصية من الرئيس الأوكراني زيلينسكـــي والرئيس الأذربيجاني عالييف، الّذي حصل على مساعدات عسكرية واستخباراتية مكثّفة من "تل أبيب" وأنقرة خلال الحرب في ناغورنو كاراباخ صيف 2020.
والآن، بعـــد فــوز نتنياهو في الانتخابات الأخيرة واحتمال تأليفه الحكومة الائتلافية قريباً، التي ستضم أحزاباً دينية وقومية وعنصرية وفاشية، بدأت بعض الأوساط رهانها المبكر على مستقبل المسار الذي أطلقه أردوغان للمصالحة مع "إسرائيل" في إطار المصالحة مع الدول الإقليمية الأخرى، وهي الإمارات والسعودية ومصر.
ومع المعلومات التي تتحدَّث عن عدم حماسة الرياض وأبوظبي لمثل هذه المصالحة، بسبب تحفظ القاهرة عليها، يبدو واضحاً أن الرئيس أردوغان سيبقى متمسكاً بالمصالحة مع "تل أبيب"، التي قيل إنها لن تستعجل هذه المرة أيضاً إلا بعد ضمان مستقبل العلاقة مع أنقرة على "أسس سليمة ومتينة واستراتيجية"، ما دام للطرفين مصالح مشتركة بصورة مباشرة وغير مباشرة.
ويعرف الجميع أن "تل أبيب" ترى في سياسات أردوغان في سورية والعراق وليبيا والصومال وباقي دول المنطقة عنصراً مهماً يخدم مصالحها وحساباتها الإقليمية، ليس في المنطقة فحسب، بما فيها إيران، بل في القوقاز وآسيا الوسطى، وحتى البلقان، أيضاً، حيث التحركات التركية ذات الطابع القومي والديني والتاريخي، وهو الطابع الذي اكتسب أهمية إضافية في حسابات أردوغان على صعيد السياسة الخارجية، وخصوصاً بعد ما سُمّي "الربيع العربي" الذي استغله واستفاد منه ليجعل تركيا عنصراً مهماً وأساسياً في مجمل المعادلات الإقليمية والدولية.
ويبقى السؤال الأخير: هل سينسى أردوغان كل ما قاله عن نتنياهو شخصياً، ويفتح معه صفحة جديدة، ويزور "تل أبيب" قريباً، كما فعل في أيار/ مايو 2005 عندما زارها واستقبله شارون في القدس، التي قال عنها إنها "عاصمة دولة إسرائيل الأبدية"، ولم يعترض عليه أردوغان؟! ثم، هل سينجح في التوفيق بين سياسات أنقرة و"تل أبيب" وقاسمهما المشترك أنّ أحزاباً دينية وقومية وعنصرية تحكم في كلا البلدين؛ كما هو الحال في "تل أبيب"، ففي أنقرة، يحكم "العدالة والتنمية" (الإسلامي) البلاد بالتحالف مع حزب الحركة القومية العنصري المتطرف وحزب الوحدة الكبرى القومي المتدين؟
في هذه الحال، ما على الرئيس أردوغان إلا أن ينسى كل ما قاله دينه الإسلامي وتاريخه العثماني وغالبية الأتراك عن اليهود، قبل وبعد قيام "الدولة" العبرية التي اعترفت بها تركيا كأول دولة مسلمة بعد قيامها بأشهر قليلة، وشهدت علاقاتها معها فيما بعد حالات من المد والجزر، كانت في أغلبها لمصلحة "تل أبيب" التي تغنت دائماً "بأنها وأنقرة الدولتان الديمقراطيتان والعلمانيتان في واحة الدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط"، التي لن يتردد نتنياهو في مساعيه للتطبيع معها من دون أن يبالي بكل ما قاله عنها وعن الرئيس أردوغان في العديد من المناسبات، ومنها في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2018، عندما اتهم تركيا "باحتلال قبرص وقتل الكرد"، لينتهي به الكلام قائلاً: "إن أردوغان دكتاتور معادٍ لليهود وديمقراطي مزور".
* نقلا عن : لا ميديا