لا يدخر الغرب جهداً في دراسة وتحليل الواقع الإسلامي والعربي، مع أنه قد استطاع التمكّن من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على بلدان العالم الإسلامي، بل استطاع أَيْـضاً ممارسة دوراً كبيراً في التأثير الفكري والتوجيهي في كثيرٍ من المجالات العلمية والفكرية.
وعلى الرغم من أن هذه المقدمة الأولية تؤدِّي في الغالب إلى زوال القلق تجاه العالم الإسلامي، إلا أن هذا لم يحدث على أرض الواقع، بل زادت تلك الدراسات التي تتناول المنطقة بالتحليل والدراسة، مما دعا البعض إلى تسمية هذه الظاهرة بـ (حمَّى الشرق الأوسط)، ولا يمكن تفسير ذلك التخوُّف الغربي من العالم الإسلامي بأسباب اقتصادية أَو سياسية فحسب، ولكنه الخوف من الإسلام الذي جعل مراكز الأبحاث الغربية تدرك أن الحرب مع المسلمين الآن هي حرب فكرية في المقام الأول، بل ويرون أن المسلمين فيها على درجة من القوة تجعلهم يبدأون حربهم على الإسلام بدءاً من الأطراف البعيدة، واتّجاهاً إلى القلب الذي يمثله العالم العربي.
وقد جاء في واحد من تقارير وزارة الدفاع الأمريكية ما نصه:
– (الولايات المتحدة اليوم تقود حربًا على الصعيدين الحربي والفكري، فهي تقود معركة بالأسلحة ومعركة بالأفكار، حَيثُ لن تكون الغَلَبَة على الجانب الآخر إلا بتشويه الأيديولوجيات المتطرفة في أعين معتنقيها ومؤيديها).
فالدراسات والاستراتيجيات تهدف إلى تفتيت الأُمَّــة العربية والإسلامية تدريجيًّا على أسس ما قبل الأُمَّــة والدولة الوطنية تسهيلاً للسيطرة عليها، فأمريكا وصلت إلى مرحلة شيخوخة نظامها الرأسمالي الذي أصبح عاجزاً عن توفير احتياجات إمبراطوريته، ولكي تواصل هيمنتها على العالم يجب أن تبقى مسيطرة على الموارد والمنافذ وخطوط الملاحة، وما لم تتشرذم الأمم وتتفاقم أزمتها البنيوية فلن تستطيع الاستمرار، وذلك ما توحي به الوثائق والدراسات التي نشير إليها في التالي:
1- وثيقة الأمن القومي الأمريكي الصادرة عام 2010م.
2- وثيقة تعزيز قيادة الولايات المتحدة للعالم وأولويات دفاع القرن 21.
3- وثيقة وزارة الخارجية الأمريكية لحكم الدول في القرن 21.
4- دراسة معهد السلام الأمريكي لتعزيز الأمن والديمقراطية في الشرق الأوسط الصادرة عام 2010م (وضعت مخطّطاً للإصلاح السياسي لكل الدول العربية).
5- دراسات مؤسّسات البحوث الدفاعية الأمريكية (راند) حول الإسلام المعتدل2007م.
6- التعميم الرئاسي الأمريكي رقم (11) بعنوان مشروع الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط وصدر في 12-1-2010م.
****
وقد ورد في بعض المرجعيات ما يلي:
“إن الصراع الموجود حَـاليًّا في معظم أنحاء العالم الإسلامي عبارة عن حرب للأفكار، وسوف تحدّد نتائج هذه الحروب التوجّـهات المستقبلية للعالم الإسلامي وما إذَا كان خطر المجاهدين الإرهابيين سوف يستمر مع عودة بعض المجتمعات الإسلامية إلى أبعد أنماط التعصب والعنف.
وهذه الحرب لها تأثير عميق على أمن الدول الغربية، وعلى الرغم من أن الإسلاميين المتطرفين يعتبرون قلة في كُـلّ مكان إلا أنهم يحظون بالتفوق في العديد من المناطق.
ويكمن السبب وراء ذلك بدرجة كبيرة إلى أنهم قاموا بتطوير شبكات شاملة تغطي العالم الإسلامي وتتجاوزه في بعض الأحيان إلى المجتمعات الإسلامية في أمريكا الشمالية وأُورُوبا، أما المسلمون المعتدلون والليبراليون -رغم أنهم أكثرية في العالم الإسلامي- فَـإنَّهم لم يُنشئوا شبكات مماثلة، ويمكن لشبكات ومؤسّسات المسلمين المعتدلين أن تعمل على توفير منبر لتقوية رسالة المعتدلين إضافة إلى كونها تشكل قدراً من الحماية ضد العنف والإرهاب.
“وعلى الرغم من ذلك نجد أن المعتدلين ليس لديهم الموارد اللازمة لإنشاء تلك الشبكات بأنفسهم، حَيثُ أنها قد تتطلب مساعدات خارجية، ومع خبرة الولايات المتحدة الكبيرة التي يعود تاريخها إلى المساعي التي بذلتها أثناء الحرب الباردة لدعم شبكات الأشخاص الملتزمين بالأفكار الحرة والديمقراطية، فَـإنَّ للولايات المتحدة دوراً حاسماً يمكنها أن تلعبه لتهيئة الساحة للمعتدلين”، تقرير راند.
“وما نحتاجه في هذه المرحلة هو استخلاص الدروس من تجربة الحرب الباردة –بين الاتّحاد السوفيتي وأمريكا- ومدى ملاءمتها لوضع العالم الإسلامي الراهن وتقييم فاعلية برامج التزام الحكومة الأمريكية مع العالم الإسلامي وتوفير خارطة طريق لتشييد شبكات للمسلمين الليبراليين والمعتدلين وهذا ما تهدف إليه هذه الدراسة”، تقرير راند.
ومنذ بداية الألفية بدأت هذه الاستراتيجيات والملامح تتشكل في الواقع العربي والإسلامي وبالعودة إلى مسار الأحداث نجد كُـلّ ما ورد في السياق وما لم يرد قد تفاعل مع واقع العرب بدءاً من حركة “تشويه الأيديولوجيات المتطرفة في أعين معتنقيها ومؤيديها” والنيل من الرموز الإسلامية ولعلنا نتذكر ما نال رسولنا الأكرم من إساءَات ولا نقول انتهاء بالمعارك التي تدار بالوكالة عبر المنظمات والشبكات فالمعركة العسكرية بدأت من العراق وما تزال أُوارُها مشتعلاً في كُـلّ مكان، وبالتوازي مع معركة السلاح هناك سيطرة كلية على الموجهات الإعلامية والثقافية من خلال السيطرة على التطبيقات الاجتماعية وتشكيل المنظمات ودعهما، وحين نسترجع شريط الأحداث في العقدين الآخرين نكتشف كم كان الغرب أغبياء في التعاطي مع الرأسمالية ونظامها القذر فقد أدارت معركتها معنا من خلالنا وبنا.