يعاني النظام السعوديّ من مشكلةٍ خطيرةٍ في واقع تركيبته البنيوية، يحاول مراراً الهروب من هذا الواقع غير أنهُ بات معروفاً للجميع دون استثناء، والمتمثل بكونه نظاماً زُرع في جسد الأُمَّــة؛ إذ نشأ وترعرع وأزدهر مقابل تنفيذ التوجيهات والموجهات؛ وإدارة الخدمات والمصالح “الصهيو صليبية” في المنطقة، فتارةً يظهر هذا النظام حريصٌ على العرب والمسلمين، وأُخرى يكون فيها المتسبب الرئيس في هلاك ودمار العروبة والإسلام.
ومن أجل تبييض وجههِ وتلميع صورته، يأتي بين الفينة والأُخرى بجملةٍ من التوجّـهات والتحَرّكات التي يعتقد أنها تساعد على ترميم الشروخ والتجاعيد الغائرة في صورته، وتجدد مساحيق التجميل الصدئة على وجهه، في مقابل انغماسه المُستمرّ في هذا التناقض والنفاق الذي انعكس على تفكير ومشاعر وسلوك قادته؛ ليس من اليوم بل ومنذ التأسيس، حَيثُ شملت الأعراض الظاهرة على الاعتقاد الزائف عن النفس والهُــوِيَّة، مع استمراء التعالي وجنون العظمة، والتلذذ بأصوات المدح والحمد والتمجيد، وُصُـولاً إلى التلون مع كُـلّ ريح غربية، وإظهار مشاعر لا تتوافق مع موقف النظام أَو مشغلوه.
هُنا.. تجبرني نتائج وبيان أعمال القمة العربية الـ32 الختامية في جدة للحديث عن التناقض بشكلٍ مفصل، وعن آفة النسيان التي ربما انسحبت على المجتمعين، وبغض النظر عمّن حضر هذه القمة من القادة العرب، وماهية أسباب حضوره وخلفياتها، إلا أن هذا يُعد انحرافاً عن الحق؛ لأَنَّ من جعل الحق وقفاً على واحدٍ من الأسباب بعينه، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب.
الانحراف الذي دفعهم إلى مغامرة النفاق في قلوبهم مرض، ولو أن المنافقين جميعاً تنبهوا إلى هذا المرض، وحاولوا علاجه، لبرئوا منه، ولكنهم يبرّرونه، بل ويمارسونه، فالتناقض الذى أفسد البيان الختامي للقمة الـ32 في جدة، هو الذى تماهت به الأسباب، بحيث لم يبقى بعدها ما يمكن حمل النتائج عليها، ولا يمكن أن يفهم منه على أي أَسَاس قضت القمة بما قضت به، أما إذَا اشتمل البيان على أسباب تكفى لحمله وتبرّر وجه إصداره فلا محل للنعي عليه بالتناقض.
دعونا نحاول تحليل ومعرفة ذلك، فقد أكّـد بيان القمة على أهميّة تكثيف الجهود للتوصل لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وهذا ما تدعو إليه كُـلّ الهيئات الدولية، ما يعني الاعتراف أن لـ”إسرائيل” حق في الأرض، ليأتي مشدّدًا أحد بنودها ليؤكّـد على مركزية القضية الفلسطينية عربياً، أي انتفاء الحق على الدول الإسلامية في المطالبة بحقوق الفلسطينيين المشروعة، أَو بالمقدسات الإسلامية، كون ذلك شأن عربي داخلي، يجسد مكرمة مؤسّس النظام السعوديّ: “نوافق على منح اليهود المساكين أرضاً بفلسطين”.
وعن المسار السوري، يؤكّـد بيان القمة على “تكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سورية على تجاوز أزمتها”، ولو لم يكن الزهايمر قد انسحب على المجتمعين، لتبينوا من كان السبب الرئيس في هذه الأزمة خلال 13 عاماً؟، ومن دعم وشجع وموّل مليشيا الانقسام وعناصر الإجرام فيها؟، ومن رعى ويرعى التواجد الأجنبي والتدخل الخارجي فيها؟، حتى لحظة تلاوة البيان.
وفي الملف اليمني حدث ولا حرج، فمن التناقض العجيب، والزهايمر المستشري، أن يؤكّـد البيان السعوديّ “على احترام قيم وثقافات الآخرين واحترام سيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها”، وعلى “دعم الجهود الأممية والإقليمية الرامية إلى التوصل لحل سياسي شامل للأزمة اليمنية”، في حين هم من انتهكوا على مدى ثمان سنوات، وما زالوا ينتهكوا السيادة والثقافة والقيم، ويسعون في خراب وتدمير اليمن، بل وجعلها بؤرة لعدم الأمن والاستقرار.
وفي الملف السوداني ظهر السعوديّون والعرب رفضين “أي تدخل خارجي في الشأن السوداني لتفادي تأجيج الصراع”، بينما كانت جدة قد احتضنت قبل أَيَّـام مبادرة للتدخل الأمريكي، فأمريكا والسعوديّة دائماً تسعى لبقاء البلدان العربية في تخلف وعدم استقرار لنهب ثرواتها وخيراتها، وعدم تمكينها من استغلال ثرواتها، غير أن الطابع النفاقي للمجتمعين، جاء شاكراً ومثمناً، “حرص واهتمام السعوديّة على توفير ظروف ملائمة لتحقيق النمو الاقتصادي في المنطقة”.
كم أن هذا التناقض الذي عاب ويعيب مخرجات القمة العربية الـ32 في جدة ويبطلها، ليس؛ لأَنَّها لم تقع على الأسباب، بل جاءت على اختلاف القضيتين بالإيجاب والسلب، بحيث لم يقتضي التناقض لذاته في صدق إحداهما وكذب الأُخرى، ولكنهُ تناقض امتزج بداءِ النسيان، ولعل تفسيرات ذلك ناتجة عن عدم فهمنا وإدراكنا لطبيعة النظام السعوديّ، الذي ما كان ليتغّير إلا بما فيه مصلحة لقوى الهيمنة والاستكبار العالمية.
عُمُـومًا، فالتناقض والتغيُّر هو الوضع الطبيعي للإنسان أياً كان حاكماً أَو محكوماً؛ إذ لا بُـدَّ أن تتناقض وتتغيَّر لكي تكون إنسان، وحتَّى يكون هذا التناقض والتغيُّر في صورة طبيعية؛ لا بد أن يكون على مراحلَ متباعدة؛ لكي لا يُعد نفاقاً من الناحية الشرعية أَو مداهنة من الناحية السياسية أَو اضطراباً من الناحية السيكولوجية.