هناك مَن يبتدئ مشواره العملي والفكري في سبيل الله والمستضعفين، فتراه إلى جانب عامة الناس، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويتقاسم معهم الخبز والماء، ويحمل همومهم، ويتألم لآلامهم، ويسعى دوماً لرفع كل ما يقع على عاتقهم من أثقال يصعب عليهم احتمالها، مبادراً لنصرة المظلوم فيهم، ولو كان أقلهم شأناً ومالاً ومكانةً اجتماعية، له صوتٌ عالٍ في كل المحافل والمنابر والقنوات في المطالبة بحقوقهم المنهوبة والمجهولة والمنسية، وتمضي الأيام والسنون وهو لا يكل ولا يمل من أداء دوره، الذي قرَّبه من الجميع، وحبّبه إلى قلوب الفقراء والمعدمين، فعرفه وأحبه الكبار والصغار، إلى أن تحين لحظة التمكين للقافلة التي يربط بينها وبين ذلك الشخص حبلٌ من عقيدة وفكر، فيقبل على ذلك الحبل بكلتا يديه، لا ليجذبه إليه، ويعزز من خلاله صلته بالناس، وإنما لكي يجعل من ذلك الحبل وسيلةً للخروج من محيط مجتمعه، وسبيلاً للوصول إلى عالمٍ آخر، تموت فيه الـ«نحن»، وتحل محلها الـ«أنا»، بحيث يغيب المجتمع عن فكره واهتماماته، ويتفرغ لخدمة ذاته الفردية، باذلاً قصارى جهده لذلك.
وهنا يكون المنصب الجديد هو بوابته الأمثل، التي يلج من خلالها إلى عالمه الخاص، بعد أن يتحلل بالقرب منها من ذاته وروحيته وعلاقاته وثيابه، وكل ما له صلة بماضيه، ليرتدي ذاتاً وروحية وثياباً أخرى، ويكون علاقات ونمط حياة جديداً، مغايراً لما كان عليه في الزمن الغابر، ظناً منه أن تغير المواقع وتبدل الأحوال والظروف، والترقي في المناصب، لا بد أن يصحبها جميعاً تغيير في الفكر والشعور، وإعادة صياغة أهداف مختلفة عن الأهداف التي التزمها سابقاً، إذ بات ذكر ماضيه بالنسبة له مضيعة للوقت، كونه صار بالياً، لا ينسجم وموقعه الجديد، وهكذا يصبح التنكر لكل ما يربطه ببداياته الحركية والعملية والاجتماعية شغله الشاغل.
لقد بحث عنه الناس الذين اعتبروه يدهم ولسانهم وضميرهم وفكرهم، فلم يجدوه، إذ تبدلت أرقام هواتفه، وتعذر الدخول إلى مكتبه، وإذا ما صادفوه في الشارع العام وجدوه محاطاً بالحراس، طائراً على كف عفريت، لا يجرؤ أحدٌ على اعتراض موكبه. عندها يتساءل الجميع:
هل هذا هو فلان؟! كيف أصبح هكذا؟! ألم يكن علويَّ النهج والخطى والسلوك والنظرة؟! أما قرأ قول الإمام في دعاء كميل: «وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً، وفي جميع الأحوال متواضعاً»؟!
ربما لم يجد في وقته متسعاً للاطلاع على سيرة ومسيرة الإمام علي عليه السلام! وربما تغير اتجاهه العقائدي بالكلية، فباتت المصلحة الشخصية هي دينه وإمامه ومذهبه، وبات معبوده هو ذاته فقط من دون الله، لهذا أخلد إلى الأرض، وبات مجرداً حتى من إنسانيته، ليصير معدوداً ضمن مخلوقات أخرى.
* نقلا عن : لا ميديا