برزت أهميّة البحر الأحمر في منظور السياسة الأمريكية في أعقاب حرب أُكتوبر 1973م حين استخدم العرب النفط كسلاح سياسي في سياق المعركة بينهم وبين إسرائيل، وكان للتوسع الأمريكي بعد انهيار الاتّحاد السوفيتي عام 1990م دور كبير أثناء رسم السياسات الدولية وتحديد خطوطها الرئيسية، وقد تزايد اهتمام أمريكا بالمنطقة العربية بعد تفردها بحكم العالم، حَيثُ يشكل البحر الأحمر أحد محاورها المهمة؛ لكونه يمثل طريقاً استراتيجياً لحركة المواصلات العالمية، وله علاقة بالعديد من النزاعات الإقليمية والدولية كالصراع العربي الإسرائيلي، والصراع الإيراني الأمريكي، والصراع الأمريكي الصيني، وسعي العديد من القوى الدولية إلى إقامة قواعد عسكرية على سواحله الممتدة لعشرات الآلاف من الكيلومترات.
وتأتي أهميّة البحر الأحمر لكونه بحراً عربياً بنسبةٍ تفوق التسعين بالمئة من سواحله، ومن ناحية أهميته في اعتماد التجارة الدولية بين شرق وغرب الكرة الأرضية على استخدام مياهه واحتواء أغلب الدول المطلة عليه على ثروات معدنية وطبيعة خلابة وسواحل مرجانية، فضلاً عن احتوائه على كميات كبيرة من النفط والمعادن الأُخرى.
ومن هنا كان لا بدَّ للولايات المتحدة من مبرّرات وَدوافع تمكّنها من السيطرة على هذا الممر المائي المهم على المستويين السياسي والاقتصادي، وقد أعلنت البحرية الأمريكية تأسيس “قوة مهام جديدة”، مع دول حليفة، تقوم بدوريات في البحر الأحمر، وحدّدت مهمتها “تعزيز الأمن في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن”، وبشكل أدق “التصدي لتهريب الأسلحة إلى اليمن”، وهي ذرائع لمطامع استعمارية وصهيونية خطيرة.
ومن أخطر هذه التحَرّكات واللقاءات “قمة النقب” التي جمعت مصر والإمارات والمغرب والبحرين وأمريكا في الأرضي المحتلّة أواخر شهر مارس الماضي، ويعود تسارع التحَرّكات البحرية الأمريكية في المياه اليمنية إلى شهري نوفمبر وديسمبر من العام 2021م، حَيثُ قامت بأكثر من مناورة.
ويمثل البحر الأحمر أهميّة ذات بُعد استراتيجي؛ بسَببِ ارتباطه بمنطقة الخليج، فأمريكا ترى ضرورةَ استمرار تأمين خطوط الملاحة التي يمر بها النفط والغاز عبر البحر الأحمر وقناة السويس؛ سعياً منها إلى أن تكون أكثر سيطرة على طرق النفط وعلى منابع النفط، ومن خلال تواجدها في البحر الأحمر وفرض هيمنتها عليه تسعى أمريكا على إعادة ترتيب المنطقة طبقاً لمصالحها الحيوية والفاعلة، كما أن البحر الأحمر يمثل أهميّة عسكرية في حال تهديد المصالح الأمريكية من أية قوة عسكرية محتملة تهدّد مصالحها، والأهم وجود مصالح استراتيجية مشتركة بين إسرائيل وأمريكا، إذ تلتزم أمريكا بضمان أمن إسرائيل في مواجهة أي احتمال عسكري أَو اقتصادي يهدّد وجود إسرائيل في المنطقة.
وحضور أمريكا المباشر قد يكون مزمناً بتثبيت تواجدها وتكريس صهيونية البحر الأحمر حتى يكتمل تحالف “الناتو العربي الصهيوني” ليقوم بمهمة السيطرة على المنطقة وضمان المصالح الأمريكية، حينئذ محتمل أن تقلص الولايات المتحدة من حضورها المباشر في البحر الأحمر، أما في الظروف الراهنة فما زالت الجزيرة العربية بالغة الأهميّة لها، وخَاصَّة مع سعي كُـلّ من روسيا والصين إلى فرض نظام متعدد الأقطاب وبالتالي إعادة رسم خارطة التوازنات العالمية ومعها الانتشار العسكري، فالولايات المتحدة منذ انتصارها على المعسكر الاشتراكي أعلنت “الشرق الأوسط” منطقتها العسكرية المركزية ونشرت فيها أساطيلها وهيمنت عبر الخونة والعملاء عليها.
خلف هذا التحَرّك عاملان: استراتيجي، وتكتيكي، الاستراتيجي: وهو متعلق بالسياسة الأمريكية الصهيونية في ضرورة السيطرة على المضايق البحرية وعلى البحر الأحمر بشكل خاص وعلى منابع النفط، فالبحر الأحمر وفق هذه الاعتبارات يقع في قلب الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية.
أما البعد التكتيكي، فهو متعلق بتضاعف القوة اليمنية في البحر الأحمر، واستباق احتمالات توقف العدوان لترسيخ الوجود الأمريكي كأمر واقع، وكذلك تفاقم الأزمة الغربية الروسية الصينية وما يرتبط بها من تحَرّكات لهذه الدول على مستوى العالم أشبه ما يكون بتسجيل نقاط في رقعة شطرنج، في الوقت الذي تحتكر فيه روسيا الحضور العسكري في البحر الأسود حتى الآن وتزداد التصريحاتُ الصينية بأحقية سيادتها في بحر الصين الجنوبي.
والخلاصة تريد أمريكا أن تضمن ثلاثة أهداف استراتيجية من خلال فرض هيمنتها على البحر الأحمر هي:
– ضمان عدم سيطرة القوى التي تراها معادية لمشروعها في المنطقة، وخَاصَّة محور المقاومة، وجل ما تخشاه أن يحدث تحالف بين الصين ودول المنطقة أَو بين الدول المطلة على البحر الأحمر وروسيا.
– الهدف الثاني: هو ضمان بقاء إسرائيل واستمرارها في المنطقة فهي تفرض حمايتها على إسرائيل، فاللوبي الصهيوني الضاغط في أروقة البيت الأبيض والمتحكم في مفاصل الدولة والاقتصاد يفرض مثل هذه السياسة على أمريكا فهي مجبرة لا بطلة في الأمر.
– الهدف الثالث: هو ضمان تدفق النفط والغاز عبر البحر الأحمر وعبر المضايق دون أي قلق، وهي اليوم أشد حرصاً منها بالأمس بعد أن أشعل الدب الروسي فتيل المعركة في جزيرة القرم وتسبب ذلك في تأثر سوق الطاقة في أوروبا، وتركت الحرب أثراً على اقتصاد دول الاتّحاد الأُورُوبي وعلى أمريكا نفسها، لذلك تخوض حرباً مع روسيا بالوكالة من خلال أوكرانيا فهي مع دول الاتّحاد الأُورُوبي يدعمون أوكرانيا لوجستياً وعسكريًّا ويقودون المعركة من خلف جدر أَو من بروج مشيدة.
تلك الأهداف كانت وراء تعثر المفاوضات السياسية وبقاء الحال على ما هو عليه حتى تضمن لها موقع قدم في البحر الأحمر دون تهديد من أية قوة عسكرية، فهي ترى أنصار الله كقوة وطنية تحرّرية معادية لمشروعها، لذلك تحاول أن تفشل أي تقارب سياسي بين صنعاء ودول التحالف العربي.