“طُوفان الأقصى” حَدَثٌ زلزَلَ الأرضَ التي ما كانت أن تهتزَّ أَو تتزلزل بغير هكذا “طوفان”؛ فكان الميزان الذي أفرز العالم بمعناه الاستراتيجي كظاهرة، وصفحة اختبار للشعوب، بمعناه الإنساني كعملٍ نضالي تحرّري، “طوفان” استعار قلْبَ الصفحة ولُبَّها في حقيقتها الهائلة في كتاب التاريخ؛ فهو بالمعنى الروحي أَيْـضاً، أعاد الاعتبار للأقصى، أرض الإسراء، وبوابة السماء، وجاء ككلماتٍ خارجةٍ عن النص، جُمَلٌ إعادة ترتيب نفسها، حروف تفككت وتجمعت من جديد في كلماتٍ ومعانٍ جديدة، انتصرت لمعركة الوعي.
لقد تفتَّق عن “طُوفان الأقصى” من الوَعي والإدراك، الذي لا يخصّنا كعرب ومسلمين أَو فلسطينيين فقط، بل إنّه الوَعي الذي تفتّق في أذهان “الإسرائيليين” أنفسهم، لقد عُدنا جميعاً إلى نقطة الصفر مع هؤلاء، لقد تحوّل الخطاب “الإسرائيلي” فجأةً من خِطابٍ استقطابي لليهود في الخارج، إلى خطاب تثبيتي لليهود في الداخل: “لا تغادروا.. رجاءً.. لا تغادروا..! لا تخذلوا المشروع الصهيوني”، في المقابل يقول الصوت الفلسطيني في غزة، للمقاومة: “نموت ولا نرحل.. فإن مِتنا اجعلوا من أجسادنا مِنصَّاتِ إطلاق لصواريخكم”.
يحتاجُ كيانُ العدوّ إلى أن ينفقَ ما في الأرض جميعاً، ويحتاج إلى أكثر من خمسٍ وسبعينَ سنةً، وضخّ المليارات من الدولارات؛ كي يبني ثقة المستوطنين بالبقاء والإقامة في بُقعة جغرافية صغيرة، وفي مقابل ذلك، تحتاج إلى لحظة مقاومة واحدة؛ كي تهدم هذه العلاقة الهشّة مرّة واحدة وللأبد، ما حصل هو أنّنا عدنا إلى البديهيات، لقد أعادهم “طُوفان الأقصى” إلى القلق الوجوديّ الأول: احتمالية أن يفقدوا كُـلّ شيء في لحظة واحدة.
كنا بحاجة إلى هذا المشهد الحاسم القاطع، لمن لم يكن يسمع ويرى، جاءت هذه الملحمة البطولية لتؤكّـد المؤكّـد بأن حرية فلسطين من بحرها إلى نهرها أقرب إلينا من حبل الوريد، وأن “البعبع” المتفوق “إسرائيل” يمكن هزيمتها، والفكرة التي زُرعت في عقولنا منذُ كُنّا صغار عن استحالة هزيمة “إسرائيل” صارت في خبر كان؛ فهي مُجَـرّد عقدة في الشبكة، ومربط ليس لفرس واحد، بل لجميع الخيول المُعطّلة، في ساحتنا العربية.
ما أحدثته معركةُ “طُوفان الأقصى” أنها أرجعتنا إلى نقطة الصفر، شعرتُ كما لو أني مع جدي (رحمة الله عليه)، نقف على نفس العتبة من مقاومة المحتلّ لأول مرة، نخطّط ونحلل، ونستخدم كُـلّ مجال حيوي ممكن، وصوت من الأعلى يهمس في أذني: الأرضُ أرضُك، والسماء سماؤك، والبحر بحرك، وكُلُّ ما عليك هو أن تهجمَ بثقة من لا تخونه السماء ومَن لا يغدره بحرٌ ومَن لا يهزّه التراب. شعرت كما لو أنّي استيقظت في عام 1948م، أَو بنقطة تاريخية عذراءَ لصراعنا مع المحتلّ، استيقظنا كما لو أنّنا لم نَعش هزيمةً قطُّ، بعد أن انكشفت سوءة كُـلّ الخونة والأدعياء والمثبِّطين.
نقلتنا “طُوفان الأقصى” من موقع الاستجابة إلى موقع المبادَرة، إنّه تحوّل نوعي وجديد لجيل اليوم الذي يبحث عن أفق ومشروع يبذُلُ فيه كُـلَّ طاقاته الكامنة، إنّه التحوُّلُ الرهيب وفي دقائقَ معدودة، من أن تكون لقمَة إلى أن تصير فَماً، إنّه الانتقال من مستوى الفريسة الضعيفة إلى مستوى الصيّاد الماهر، والتحرّر من موقع الاستجابة إلى موقع الاستباق، ومن ذهنية العجز والخوف إلى ذهنية الفارس المقدام.
هذا الشعور لَم يكن على مستوى أفراد الأُمَّــة؛ باعتبارهم جماعةً داخليةً فحسب؛ إذ مَن يرصد الخطابَ الغربيَّ لحظة الـ 7 من أُكتوبر، يدرك تماماً أن الغربَ انبثق عنده وَعيٌ مماثلٌ بأن هؤلاءِ أُمَّـةٌ من دون العالَم، ينظرون إلى أنفسهم ويفكرون بصورة مُستقلة بعيدًا عن إملاءاتنا الغربية، ومَن ينظر في الخطاب الإعلامي الغربي، يرى تماماً أن الغربَ شَعُرَ بأنّ هؤلاءِ البشرَ قد صاروا فجأةً أنداداً وليسوا تَبَعاً وليسوا مُجَـرّد مُضْطهدين خاملين.
لقد نقلتنا “طُوفان الأقصى” التحرّرية من عقلية الهزيمة إلى عقلية الانتصار مهما كانت التضحيات، وقد تحقّقت فعلاً، لقد كُسِرَت حلقة العجز المُكتسَب والخوف المُوَارَث مرّة واحدة وإلى الأبد، وستكون جميع مواجهاتنا القادمة مع كُـلّ الأعداء، مواجهات المُبادَأة والخيال الحرّ، والممكن غير المحدود؛ فالأرضُ أرضُنا، والسماءُ سماؤنا، (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).