رجالٌ صدقوا ما عهدوا الله عليه، أشاوس في المعارك، أبطال في ساعات اللقاء، ليوث الوغى، وأعاصير تعصر بالعداء، وزوابع ترميهم للبعيد، تنكيل بتنكيل، حصون حصينة، قلاع منيعة، كالأوتاد بل أشمخ، كالبحر وأعصى؛ توكُّلًا على الله، وَتصديقاً بوعد الله، ولقد هبوا تاركين متاع الدنيا خلفهم، ارتضوا الوديان مسكناً، والسماء لحافاً، شربوا الصعاب من إناء مَـا هو صعبٌ سيهون في نصرة دين الله، وكلّ ما هو في الدنيا فانٍ.
ويبقى وجه ربك ذُو الجلال والإكرام، خلفهم دعاء أم، شوق أطفال، حنين زوجة، بكاء أخت، أصدقاء ينتظرون في من ينعون، وعلى من تقرأ على أرواحهم زيارة متبوعة بالفاتحة، هناك وطن يرتجي منهم الوفاء المسلوب، والكرامة التي تلاعب فيها المعنيون، وأن تعود الأرض يمانية وتزاح الوصاية الأمريكية، أن تعيش صعدة بقرب صنعاء وتحتضن البيضاء مأرب، ويعود جنوبنا والشمال موحداً، أن يكون دستوراً جمهورياً، وسيادة علوية، تعيد الإنسان إنسانًا، وتجعل من الغازي عبرة لمن يعتبر، وتجعل من الحدود ناراً سرادقها جيشًا يحمي الحمى ويصون العرض والأرض، أن تكون اليمن هي اليمن منذ ألف عام، ويكون الأنصار كالسابقون أنصاراً للدين، واستغاثةً لـنداء المظلوم، أن تبقى “عليكم باليمن إن اشتدت بكم المحن”، أن يبقى النبي وكتاب الله وعترته بيننا، إننا ما زلنا وما زالت أحاديث الرسول تروينا، ما زلنا لم نزل دام القيادة بيد حفيد الأطهار.
تقرع الحرب طبولها، وتتعالى أصوات الرصاص وتنهمر كزخات المطر، خصمان على أرض المعركة: أحدهما غازٍ والآخر حرٌّ مدافعٌ، نموذجان هناك، نموذج ضُربت عليهم الذلة والمسكنة، ونموذج إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، قوتان إحداهما تملك دعماً عسكريًّا وترسانة حرب متمكّنة، وقوة تحمل سلاح الإيمان الجازم بوعد الله، فشتان بين من يتوكل على الخالق، ومن يتوكل على المخلوق.
ما أن تكون المعركة في أشد وطيسها، هناك حتى يرتقيَ شهيداً ليكون النصر محتوماً للفئة المناصرة للحق، فما من شهيد يرتقي إلا وهناك نصرٌ يُتلى من بين تلك الدماء الطاهرة، بكل استبسال يقاتل الأعداء، ويقدم دروساً حسينية في الشجاعة، ينكل بالقوات المدربة والقوية ويجعلها صغيرة أمام العالم، يحرق معداتها العسكرية بالولاعات ويدوس عليها حافي القدمين، ليخبر العالم أن اليمن عزيزة برجالها مُصانة بدمائهم، إن شهدائنا عظماء، فرحين بما آتاهم الله من فضله، محفوظ الوطن بهم وَفي قلوبهم، وهم لن يبيعوا ولو شبراً واحداً من أراضيهم، أَو يساوموا في شرف وعرض شعبهم، فسلامٌ على جيشنا واللجان، وعلى قاداتنا والأفراد.
ما أن يرتقي الشهيد مودعاً داراً راحلة زائلة، ليحيا في الملكوت الأعلى، جوار الأنبياء والصالحين، ينعم ويفوز بدار الخلد والنعيم، حَيثُ تزف السماء نبأ الوصول، بأن هناك نجماً جديدًا يزين السماء يرشد الناس إلى طريق الحق، يكون ضوءًا في آخر ذلك النفق، والأرض بدورها تنعي خبر الشهيد، والأهل بمحطة الشهداء يودعون قرة العين، ومهجة الفؤاد، وفي لحظة الوداع الأخير، تقشعر الأجسام من ثبات وقوة الأم الصابرة، وصبر وتحمل الزوجة، وفخر الأبناء، وإن كان هذا يرضيك يا رب خذ منا حتى ترضى تحكيها الأخت، الأب يهيئ الإخوان للذهاب، والأصدقاء يزفون الصديق كعريسٍ لروضة الشهداء، رغم لوعة الفراق وبشاعة الانتظار، والعيش معهم بصورٍ معلقة، وذكريات تمر، حركاتهم ضحكاتهم ضجاتهم، قصصهم، بطولاتهم، أماكنهم على سفرة الطعام، وأطفال لا يعون ماذا يعني سفرٌ طويلٌ لا عودة فيه، وزوجةٌ تقاوم لتكون هي العمود لهؤلاء الصغار، يأتي الوقت المحدّد لعودة بطلهم من المعركة لـيأتي، ينتظرون على حافة الباب، أن يرتموا في حضن السلام والأمان كالعادة، لكن هذه المرة لم يأت ولن يأتي، الطريق فارغ مظلم باهت، الممر عبارة عن أوراق خريف متناثرة أوراق الشجر في الأزقة، فيحملون خيباتهم، بخطوات بطيئة جِـدًّا، تتبعها التفاتات للطريق التي بهتت فيها الألوان، ويشكون للجدة، فتكتم غصتها وتداري دمعاتها ببسمة حنونة تحكي أن أباكم اليوم بات من سكان السماء سيزوركم ليلاً، ويقبل رؤوسكم ويطبطب على قلوبكم، يغطيكم جيِّدًا من البرد، والدكم تاجر مع الله، والله قبل تجارته، أنتم اليوم أبناء الشهيد، لترفعوا رؤوسكم عاليةً.
فهنيئاً لمن تاجروا مع الله فربحوا التجارة، وتجاوزوا البوار والخسارة، سلامٌ على من شُرفت بهم مسيرتنا القرآنية، أنتم من أنرتم لنا طريق الحرية، فنعم عقبى الدار وهنيئاً لكم هذ الشرف العظيم، سنحكي للعالم بطولاتكم، وسنكتب حتى يجف المداد، وترتقي الأنفس، وإنا بإذن الله منكم لطالبون الشفاعة، فسلامٌ عليكم ما تعاقب الليل والنهار..