ما يزالُ الجَدَلُ التاريخي بين الحضارتَينِ: الفارسية والرومية يمتدُّ إلى عصرنا، بالرغم من تطور الأدوات وتشعب المصالح وتداخل الشركات العالمية العابرة للقارات، وبالرغم من الانزياح الكبير في المستويات الحضارية التي وصل الإنسان إليها، ويبدو أن التاريخ يسير وفق قانون واحد لا يمكنه التبدل والتغير؛ فالذي يحدث بالأمس أَو بالماضي البعيد يكادُ يحدُثُ اليوم؛ فالتشابه في البواعث والأحداث يكاد يكون واحداً وإن تغيرت الأدوات والأساليب.
في الماضي البعيد حاول الرومان أن يكون اليمنُ جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، وأن تخضع لنفوذهم وقد حاول القائد الروماني ديقيانوس غزو اليمن، فالتهمت صحراء صيهد جنوده وعتاده وعاد خائب الرجاء يجر أذيال الخيبة، وما يزال هاجس الهيمنة وقتئذ يراود حكام تلك الحقب التاريخية أملاً في السيطرة على طريق البخور والتحكم في طرق التجارة، وفي المقابل لم تكن فارس تطمع في جنوب جزيرة العرب وجل اهتمام الفرس في الحقب التي شهدت الصراع -بين الروم والفرس- كان مركزاً على الشام وفق مفهومه الجغرافي القديم وكان الفرس من الزاهدين في جنوب الجزيرة أي في العربية السعيدة، فلم يتحدث التاريخ عن أطماعهم ولكن تحدث عن زهدهم حتى أن كسرى لم يرسل جندياً واحداً مع سيف بن ذي يزن ولكن أرسل معه نزلاء سجنه، وما يزالُ أحفادُ الفرس من الزاهدين في اليمن، لقد دَلَّ الجدلُ الحضاري التاريخي بين الحضارتين الفارسية والرومانية على ثبوت اليمن ورسوخها وعلى وجودها الحضاري والثقافي والسياسي والاقتصادي وعلى زهد الفرس وطمع الرومان، كما دل على أن اليمن أرض لا تقبل غريباً، وأن صحراء صيهد ومأرب والجوف تلتهم الغزاة والطامعين، فإذا كان ذلك هو حظ الرومان قديماً، فماذا عساهم أن يجدوا اليوم؟ فاليمن تستنهض مقوماتها الحضارية، ولعل العدوان الدولي قد صهرها فأيقظها.. وهي تتهيأ للبزوغ، وما هو كائن في التاريخ سيكون، ولا بقاء للطارئين على التاريخ.
ولا عزاءَ للمتشدقين الذين سلب المال عقولهم فهرعوا وراء بريقه وباعوا اليمن إلا ما كان من عزاء لأمثالهم في التاريخ، فالعميل المندس لا شرف له ولا قيمة له وقد دلت مسارات التاريخ وتموجات الأحداث على تراجيديا مآلاتهم، وها هي السعوديّة تطردهم من الفنادق بعد أن قضت منهم حاجة كانت تضمرها.
اليمن ليس حضارة طارئة ولكنه بلد يمتد في عمق التاريخ، ويلزمه في زمنه هذا أن يقوم بتفكيك بنيته الحضارية والتاريخية والثقافية والاجتماعية؛ ليستعيدَ مقوماته الحضارية والسياسية والثقافية ويستعيدَ مركَزيته الإقليمية وصدارته التي كانت في غابر زمنه، ولن يصل إلى مبتغاه حتى يصنع من فكرته الدينية مشروعاً سياسيًّا واعياً وقادراً على إحداث التحولات وتحريك عجلتها.
فالقضية الوطنية اليمنية تعود بجذرها إلى الأشكال التاريخية التي لم يتعرض لها المفكرون لفض إشكالاتها المتوالية، ولذلك فَــإنَّ النتائج المتوالية نتائج مؤلمة لكل حركات التحول والانتقال التي اشتغل عليها السياسي وأهم تلك الأشكال تتمثل في الصراع الاجتماعي وتناقض علاقات الإنتاج، فاليمن الأسفل يمتاز بقيم وعلاقات متناقضة مع غيرها من المناطق ذات البنى الاجتماعية الأكثر استغراقاً في النظام القبلي، كما أن الجنوب الذي حكمته النظرية الاشتراكية لمدة (23) عاماً قد تركت في تصوراته نظماً ربما كانت متصارعة مع الثقافة الرأسمالية للمستعمر البريطاني الذي حكم المحافظات الجنوبية لما يقارب قرنًا ونصفَ قرنٍ من الزمان ومتصارعة مع الإشكالات التاريخية في السياق الثقافي الوطني، ومثل ذلك التناقض ترك أثراً في المسار التاريخي الثوري تتوَّجَ بحركة (13 يناير 1986م) الدامية، فاليسار في الجنوب لم يتمكّن من فض الإشكال التاريخي ولم يتمكّن من تصفيته من محتواه المتأجج والعدائي، كما أن الثورة اليمنية لم تتمكّن من فض الإشكال في اليمن الأسفل، وهو إشكال تركه قائمو مقام الدولة العثمانية وما تزال آثاره تهدّد السلام الاجتماعي وتعزِّز من الروح العدائية والمتأججة في تلك المناطق، فالنظام الإقطاعي في تلك المناطق ترك أثراً نفسياً مدمّـراً وشعوراً بالدونية والنقص والفراغ، ويكاد مثل ذلك يمتد إلى الشريط الساحلي كنتيجة لبعض الممارسات الخاطئة التي تنامت بعد حرب صيف 94م التي شكلت منعطفاً خطيراً في اليمن الحديث، فالذين خاضوا الحرب لم يكن هاجسهم إلا البحث عن الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعية المرموقة، ولم يكن الاستقرار هدفاً في ذاته، فوعي الغنيمة كان حاضراً بقوة من خلال نهب المؤسّسات الرسمية والاستئثار ببعض المقدرات ومن خلال نهب الأراضي التي اقتطعوها لأنفسهم واكتسبت شرعيتها القانونية من خلال الهبات الرئاسية، وتحت هذا المناخ برزت الإقطاعيات العسكرية والدينية والمشيخية على حساب الطبقات الاجتماعية الأُخرى وجموع الجماهير التي كانت تشرئب أعناقها إلى غدٍ أكثرَ رخاءً ورغداً، ولم يكن حظ الجماهير من تلك الحرب (حرب صيف 94م) سوى يقظة حزمة المفاهيم التاريخية البغيضة كالاستغلال والغبن والغش وهي مفردات تكوّنت صورتها الحقيقية في الحراك الجنوبي بكل فصائله، لذلك فالانفصال بما يعنيه من تناقض ليس نفياً للآخر كما أنه ليس احتواءً له ولكنه بدايةً سوف تظهر مع نهاية هذه المرحلة (مرحلة الحرب وبقايا النظام القديم).
زبدة القول نحن نعاني من تراكمات تاريخية لا بدَّ من الوقوف أمامها بقدرٍ واعٍ من المسؤولية، ومثل ذلك يتطلب تشجيعاً للحراك الثقافي والفكري في اليمن فبدونه سوف نحرث في بحر.