صحيفة المسيرة: ضرار الطيب
مثَّلَ القرارُ الجديدُ للقيادة اليمنية بتوسيع العمليات البحرية لتشملَ كافةِ السفن المتوجّـهة إلى موانئ الكيان الصهيوني، صدمةً جديدةً للعدو الإسرائيلي ومن وراءه الولايات المتحدة الأمريكية، حَيثُ وجد الصهاينة أنفسهم فجأة أمام “حصار بحري” مشدّد، بحسب تعبير مسؤوليهم ووسائل إعلامهم، وهو حصارٌ تفرضُه قوةٌ جديدةٌ أحرقت على مدى أسابيع الكثيرَ من المراحل الاستراتيجية وفرضت معادلاتٍ ذاتِ أبعادٍ إقليمية ودولية بدون أن يتسنى لـ”تل أبيب” أَو واشنطن التفكير جيِّدًا في كيفية مواجهتها أَو إيقافها، الأمر الذي يجعلُ اليمن ليس فقط طرفًا ضاغطًا بقوة في المعركة الحالية، بل تهديدًا مستقبليًّا استراتيجيًّا لوجود الكيان الصهيوني ولهيمنة الولايات المتحدة والغرب على المنطقة.
عقب إعلان القوات المسلحة عن رفع مستوى العمليات البحرية لتشملَ منع كافة السفن المتوجّـهة إلى موانئ العدوّ الإسرائيلي من أية جنسية، قال مستشار الأمن القومي لكيان الاحتلال، ووسائل الإعلام العبرية: إن “ما يحدث عمليًّا هو فرضُ حصار بحري على إسرائيل” وهو توصيفٌ يعبِّرُ عن صدمة واضحة ليس سببها القرار المفاجئ فقط، بل التحَرّك اليمني المفاجئ والاستثنائي منذ بدء المعركة؛ فالقرار الجديد جاء وسط زحمة تأثيرات مخيفة متصاعدة لم يشهدها كيان العدوّ من قبلُ في ما يتعلق بحركة التجارة البحرية، وذلك نتيجة قرار منع عبور السفن الإسرائيلية من البحرَينِ الأحمر والعربي؛ الأمر الذي جعل القرار الجديد بمنع كافة السفن من الوصول إلى موانئ العدوّ بمثابة تعجيل مفاجئٍ للنتيجة التي كانت التأثيرات السابقة تسير في اتّجاهها، وهي الحصار الفعلي.
وإلى جانب التأثيرات الكبرى التي تحملها المعادلةُ اليمنية الجديدة على الكيان الصهيوني واقتصاده، والتي تبدأ من ارتفاع أسعار البضائع بشكل كبير ومضاعَفٍ، مُرورًا بشحتها وانعدام بعضها تماماً في الأسواق، وُصُـولاً إلى إيقاف حركة التجارة بين كيان الاحتلال وآسيا تماماً، والتأثير على خطوط الشحن الأُخرى أَيْـضاً؛ وهو ما يعني ضرب اقتصاد الكيان بأكمله، فَــإنَّ صدمةَ العدوّ تتعلَّقُ بأمورٍ أُخرى استراتيجية، كطبيعةِ المعادلة اليمنية وأبعادها ودلالاتها.
لقد مثَّل قرارُ القيادة اليمنية ممثلةً بالسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بشأن فتح الجبهة البحرية ضد الكيان الصهيوني في منتصف نوفمبر الماضي وما تبع ذلك من عملياتٍ، وُصُـولاً إلى منع كافة السفن من الوصول إلى العدوّ، تحريكًا لورقة ذات أبعاد إقليمية ودولية، ليس من حَيثُ أضرارها؛ فهي محصورة فقط على حركة الشحن “الإسرائيلية” ولكن من حَيثُ مسرح عمليات هذه الورقة الاستراتيجية، فحظرُ حركة الشحن من وإلى كيان العدوّ في البحرَينِ الأحمر والعربي هو معادلةُ تحالفات إقليمية ودولية، وفرضُ مثل هذه المعادلة من قبل دولة واحدة وبدون أي غطاء سوى مشروعية إسناد الشعب الفلسطيني ودعم مقاومته، يمثل صفعةً كبيرة ليس للكيان الصهيوني فحسب بل أَيْـضاً للولايات المتحدة الأمريكية التي تعودت أن تستخدمَ واجهاتِ “القانون الدولي” وَ”المجتمع الدولي” وغيرها من فزَّاعات الاصطفاف العالمي والإقليمي؛ لكي تحتكرَ فرضَ مثل هذه المعادلات في العالم.
وهذا أَيْـضاً ما ترجمَه بوضوحٍ ربطُ المعادلة اليمنية بدخول حاجة قطاع غزة من الغذاء والدواء والوقود؛ إذ يبدو بوضوح أن من أبرز أهدافِ هذه المعادلة رفعَ الحصار الذي يفرضه العدوّ الإسرائيلي والولايات المتحدة بمساعدة بعض الأنظمة العملية على قطاع غزة، وهو ما يعني أن القيادةَ اليمنية هنا تريدُ التأثيرَ في مجريات الموقف الدولي والإقليمي السلبي الذي يقتل الشعب الفلسطيني؛ ولذا كان من اللازم أن تكون المعادلة الرامية لتحقيق هذا الهدف ذات أبعاد إقليمية ودولية.
وأن يكونَ اليمنُ -الذي يعيش عدوانًا وحصارًا وحشيَّينِ منذ أكثر من تسع سنوات- قادرًا لوحده على اقتحام هذه الساحة وفرض معادلات من هذا النوع لتحقيق أهداف بهذا الحجم، هو حَدَثٌ تأريخيٌّ صادمٌ بالنسبة للكيان الصهيوني وللولايات المتحدة ومنظومة تحالفاتها الإقليمية والدولية؛ لأَنَّه يعني أن اليمن أصبح لاعبًا دوليًّا مؤثِّرًا فجأةً، ولا شك أن الكثير من الأسئلة تدور الآن في ذهن القيادتَينِ الصهيونية والأمريكية من قبيل: ماذا سيفعل اليمنيون أكثرَ إن استمرت الحرب؟ وإلى أين تصلُ قدراتهم وجُرأتُهم بالفعل؟ وكيف سيكون المستقبلُ في وجود هذه القوة التي تمتلكُ أُسلُـوبًا استثنائيًّا في التحَرّك وفقًا لمبادئَ وحساباتٍ لا نستطيع السيطرة عليها؟
والحقيقةُ أن العديدَ من التقارير العبرية والأمريكية قد أشَارَت ضمنيًّا إلى حضور مثل هذه الأسئلة في نقاشات قادة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، حَيثُ كشفت صحيفةُ “يديعوت أحرنوت”، أمس عن وجود خلافاتٍ داخل “تل أبيب” حول كيفية الاستجابة للتهديد اليمني، وهو وضعٌ يتطابَقُ مع ما كشفته خلال الأيّام الماضية عدة وسائل إعلام أمريكية منها صحيفة “بوليتيكو” وشبكة “سي إن إن” حول الموضوع نفسه، وخلاصةُ ما أكّـدته هذه التقارير العبرية والأمريكية أن هناك أصواتًا تدعو للتحَرّك بسرعةٍ ضد صنعاء؛ لأَنَّها أصبحت تشكل تهديداً استراتيجياً كَبيراً ليس فقط على الكيان الصهيونية واقتصاده وأمنه بل أَيْـضاً على مستقبل وجودِ ونفوذِ الولايات المتحدة وهيمنتها على المنطقة.
لكن هذه التقاريرَ أكّـدت أَيْـضاً بالمقابل أن الكثيرَ من مسؤولي كيان العدوّ والولايات المتحدة لا يحبِّذون فكرةَ التحَرّك العسكري المباشر ضد صنعاء، والسببُ هو أن ذلكَ قد يورِّطُ كُلًّا من تل أبيب وواشنطن في صراع كبير يفضي إلى تداعياتٍ أشدَّ وأوسعَ؛ وهو ما يعني بعبارة أُخرى أن الصهاينة والأمريكيين باتوا يعرفون جيِّدًا أن اليمنَ قادرٌ على خوض المعركة معهم وإلحاق أضرار كبيرة بهم برغم كُـلّ ما يتمتعون به من إمْكَانات ونفوذ، وأن هذا الصراع سيتضمن فرض معادلات يمنية إضافية ذات أبعاد إقليمية ودولية، ربما لا يمكن التنبؤ بها الآن أصلًا.
وحتى احتماليةُ الإقدام على أية خطوات عسكرية عدائية ضد اليمن، لن تغيِّرَ من هذه الحقيقة؛ فصنعاءُ قد أكّـدت بالفعل جاهزيتَها واستعدادَها لمواجهة أي تحَرّك ضدها، وبالنظر إلى حجم الخيارات التي اتخذتها القيادة اليمنية حتى الآن، يمكن القولُ إن هناك الكثيرَ من المفاجآت والصفعات الكبرى التي قد أعدتها القواتُ المسلحة لوقت الحاجة.
وبالعودة إلى طبيعةِ المعادلةِ الجديدة التي فرضتها القواتُ المسلحة اليمنية، فَــإنَّ توقيتَها وظروفَ إعلانها قد حملت إشارات واضحة إلى كونها رَدًّا واضحًا على التسلط الدولي الذي تمارسُه الولايات المتحدة الأمريكية على مرأى ومسمع من العالم بأكمله، حَيثُ يقول عضوُ الوفد الوطني المفاوض، عبد الملك العجري: إن “قرارَ القوات اليمنية المسلحة إدراجَ السفن المتجِهة أَو التي تنقلُ بضائعَ إلى الموانئ الإسرائيلية ضمن قرار المنع جاءَ على إثر الفيتو الأمريكي ضد قرار وقف الحرب على غزة”، مُضيفاً أن “أمريكا في سبيل الكيانِ الصهيوني أصبحت تتصرفُ كدولةٍ مارقةٍ وخارجة عن الإجماع الدولي، ومع أن بيانَ الجيش حرص على تأكيدِ سلامة التجارة الدولية، فَــإنَّ أمريكا وإسرائيل بتمردهما على الإرادَة الدولية ورميهما القانون الدولي عُرضَ الحائط يتحمَّلان مسؤوليةَ أيةِ مخاطر تهدّدُ التجارةَ الدوليةَ والممرَّاتِ البحرية وكل تبعات توسيع الصراع وتهديد أمن واستقرار المنطقة”.