حيّان نيّوف*
بعد إعلانها تشكيل تحالف بحري لمواجهة أنصار الله في اليمن، يضمّ عشر دول أعلن عنها البنتاغون، بالإضافة إلى دول أخرى فضلت عدم تسميتها علنًا، بدأت واشنطن الحديث عن هدنة ممتدة في غزة وعن تبادل للأسرى.
هي سياسية أمريكية قديمة جديدة، حيث تدفع واشنطن بعوامل القوّة بيد وبعوامل السياسة بيد أخرى، وغالبًا ما تسعى للتغطية على الفشل العسكري المتوقع بتحرك سياسي..
تعتقد واشنطن أنها كانت مضطرة لإعلان التحالف العسكري البحري حفاظًا على بعض من هيبتها المهدورة على شواطئ البحر الأحمر، على أيدي أنصار الله في اليمن. وتعتقد، في الوقت نفسه، أنها تحتاج لتحرك سياسي يجنبها الفضيحة بعد إعلانها للتحالف البحري وتدرك بأنّ مطالب صنعاء واضحة وفقًا لما أعلنته مرارًا وتكرارًا، وتتمثل بوقف العدوان وإدخال المساعدات إلى غزة. لذلك؛ فهي تطرح اليوم البحث في هدنة ممتدة كما وصفتها بهدف تجنب المواجهة مع أسود البحر اليمنيين، ثم لتقول لاحقًا إن تحالفها البحري هو من أعاد الأمور إلى مجراها الطبيعي في البحر الأحمر حفظًا لماء وجهها أمام حلفائها الإقليميين التي تدّعي حمايتهم مقابل أموال هائلة وتحالفات هشة.
سياسيًا، وبالتوازي مع هذه السياسة الأمريكية، تكثفت الاتصالات التي تجريها كل من مصر وقطر للبحث في هدنة جديدة وصفقة لتبادل الأسرى، وأعلن عن توجه كل من قيادتي حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى القاهرة لبحث وقف إطلاق النار. وكذلك، وفي السياق ذاته، أجرى وزير الخارجية الإيراني اتصالًا هاتفيا مع نظيره السوري قبل توحهه إلى قطر للبحث في موضوع وقف إطلاق النار، وتجري اتصالات دولية مكثفة في مجلس الأمن الدولي لصدور قرار بهذا الخصوص، وتحديدًا من روسيا والأمين العام للأمم المتحدة في محاولة للضغط على واشنطن لمنع عرقلة أي قرار جديد لوقف إطلاق النار.
وفي المواقف المعلنة:
أعلنت الأمم المتحدة بأنّ الصراع في غزة بلغ مرحلة مأساوية ومخزية، وحذرت المنظمات الإغاثية بأن الوضع بات كارثيًا وخارج السيطرة.
قيادة المقاومة الفلسطينية متمثلة بحركتي حماس والجهاد أعلنت، بشكل واضح ومنسق، شروطها الحاسمة بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وتمثلت بوقف العدوان وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، وبخصوص الأسرى فقد طرحت مبدأ الكل مقابل الكل.
في الجانب الإسرائيلي، يناور قادة الكيان الصهيوني في محاولة للحصول على هدنة مؤقتة وصفقة جزئية للأسرى، والهدف هو تخفيف ضغط الشارع الإسرائيلي مرحليًا إلى حين تحقيق المزيد من الضغط على واشنطن لدفعها للقيام بحماقة عسكرية إقليمية.
أما القيادة في صنعاء فقد كانت أكثر وضوحًا وحزمًا، وهو ما عبّر عنه قائد أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي الذي أعلن عن استعداد اليمن لمواجهة أي حماقة أميركية أو غير أميركية ، وحذر واشنطن من أن سياستها التي تقوم على تنفيذ عدوان ومن ثم الدفع لتهدئة الوضع لن تنفع، وبأن الرد سيكون حاسمًا، وفي الوقت ذاته، فإنّ موقف صنعاء المتعلق بتحريم البحر الأحمر وباب المندب على السفن الإسرائيلية والسفن المتعاملة مع "إسرائيل" بقي ثابتًا ويتمثل بوقف العدوان ورفع الحصار عن غزة شرطًا لازمًا لا تراجع عنه.
وبما يخص الجانب الأميركي، تستمر سياسات المراوغة والخداع، ففي الوقت الذي تطرح فيه واشنطن الحديث عن وقف لإطلاق النار وتبادل الأسرى، سواء بشكل مباشر أم عبر الأنظمة الإقليمية المتحالفة معها، تسعى في الوقت ذاته لتحقيق أهدافها وأهداف "تل ابيب" التي عجزتا عن تحقيقهما في الميدان، وهذه السياسة عبّر عنها وزير الخارجية بلينكن بالقول بأنّ بلاده ما تزال تبحث عن حل لقضايا عالقة بما يخص قرار مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة، بينما قال بايدن بأنه لا يعتقد بأن تبادل الأسرى بات قريبًا.
أما الموقف الروسي؛ فقد كان صريحًا للغاية في تعرية وفضح المراوغة الأمريكية، وذلك على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي قال إن: "الغرب بقيادة الولايات المتحدة، يحيك مرة أخرى نوعًا من المشاريع الخاصة، والهدف هو تهدئة الوضع بطريقة أو بأخرى، لمنع توحيد قطاع غزة والضفة الغربية، وبالتالي منع إقامة دولة فلسطينية وتأجيل كل ذلك إلى وقت لاحق، وهذا يعني دعوة لأزمة أخرى وصراع آخر".
في الميدان:
ما تزال آلة الإجرام الإسرائيلية تمارس القتل والتدمير في قطاع غزة؛ حيث قارب عدد الشهداء من 20 ألفًا وتم تدمير ما يقارب من 70% من أبنية غزة، لكن في الوقت ذاته؛ فإنّ بنك الأهداف الإسرائيلي لم يعد فيه الكثير بعد استخدام لسياسة الأرض المحروقة وفشلها في القضاء على المقاومة أو حتى الوصول لأي من قادتها وفشلها في السيطرة على قطاع غزة، بل ما تزال صواريخ المقاومة تستهدف مدن ومستوطنات الكيان الصهيوني حتى في "تل ابيب" والقدس، وما يزال قتلى الجيش الإسراىيلي في تزايد وكذلك الياته المدمرة، فيما تستمر المقاومة في لبنان باستهداف المواقع العسكرية الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، ومؤخرًا استهدفت بطاريات لصواريخ الدفاع الجوي الصهيوني من نوع باتريوت، وكذلك ترد بالمثل مع كل استهداف إسرائيلي لأية مواقع مدنية. وعلى الجانب السوري ما تزال القذائف الصاروخية تنطلق من الجنوب السوري، بشكل شبه يومي باتجاه الجولان، بينما يستمر اليمن في تنفيذ قراره الجازم باستهداف ومنع السفن المتجهة للكيان الصهيوني وكذلك ينفذ عمليات عسكرية بالطيران المسيّر باتجاه الكيان الصهيوني. وعلى الجبهة العراقية تستمر المقاومة العراقية بتنفيذ عملياتها واستهداف القواعد الأمريكية في العراق وسورية.
إلى أين تتجه الأمور؟
بالنظر إلى التحشيد الأميركي في البحر الأحمر والمنطقة، وكذلك عمليات نقل السلاح والعتاد إلى قواعده في الشرق السوري، يمكن القول بأنّ واشنطن وفي ظل عدم قدرتها على تمرير شروطها وشروط "إسرائيل" وفشل محاولاتها للخداع والمناورة، سواء من خلال فرض شكل للسيطرة على قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار المحتمل، أو فشلها في خطتها في التسويق للمقترح المخادع والمتمثل بحل الدولتين، فإنّ دائرة خياراتها تضيق وتجد نفسها وحليفتها "إسرائيل" بين خيارين، خيار المواجهة الشاملة أو خيار الرضوخ لشروط محور المقاومة، وهي تدرك بأن الوقت يضيق أمامها لأسباب كثيرة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو إقليمي وآخر متعلق بالصراع الجيوسياسي العالمي، هذا بالإضافة إلى المأزق الإسرائيلي.
ولا بد من الإشارة الى أنه على محور المقاومة توخي الحذر من الخبث الأميركي، وخاصة أن واشنطن اعتادت الهروب من مآزقها بافتعال بؤر توتر جديدة بهدف خلط الأوراق وتشتيت الخصوم، فبالنسبة إلى الولايات المتحدة فإنّ الصراع على/في الشرق الأوسط هو صراع التربع على عرش الهيمنة العالمية. لذلك؛ فإنّ واشنطن تضخّ بكامل إمكاناتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والاستخباراتية في المنطقة، ويتوالى وصول كبار المسؤولين الأمريكيين إلى الإقليم بالتتابع منذ طوفان الاقصى .."الرئيس الأمريكي بايدن، وزير الحرب، وزير الخارجية، مدير المخابرات المركزية، رئيس الأركان.. وغيرهم"، وتنتشر القواعد العسكرية الأميركية الشرعية وغير الشرعية في معظم دول الشرق الأوسط.
بالتأكيد؛ يدرك خصوم الولايات المتحدة وعلى رأسهم محور المقاومة هذه الحقائق، ويتم التعامل معها بالكثير من الحكمة والشجاعة في الميدان والسياسية، ولعلّ أهم إنجاز لمحور المقاومة في هذا الصراع يتمثل بوضع الممرات والمعابر والمنافذ البحرية والبرية وحتى الجوية تحت مرمى نفوذه ونيرانه وسيطرته، في هرمز وباب المندب وفي البوكمال/القائم و شرق المتوسط ..
وما بين التمحور والتشبيك بين دول المنطقة، فيما بينها وبينها وبين الدول العظمى الفاعلة في الإقليم، يبدو المشهد معقدًا للغاية إلى الحد الذي يصعب معه استشراف نتائج الصراع على المدى المنظور والبعيد، وكذلك من الصعب الجزم بتحديد ميادينه الجغرافية الحالية والمستقبلية.
وممّا لا شكّ فيه أن طوفان الأقصى شكّل واحدة من أهم المراحل التاريخية لهذا الصراع، ويكفي أنه كان عاملًا مفصليًا لتظهير هذا الصراع وتمحوراته وتشابكاته. ولقد دلّت التصريحات والمواقف الكثيرة الصادرة عن قادة أطراف الصراع طوال فترة طوفان الأقصى إلى اليوم، بما فيهم قادة دول محور المقاومة وقادة الدول العظمى والإقليمية، على تلك الحقائق.. وربما كان الأكثر وضوحًا لفهم مرحلة الصراع ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عندما وصف، في خطابه الأول، المعركة الحالية بأنها معركة بالنقاط وليست المعركة النهائية.
والسؤال الذي يطرح اليوم: متى وكيف تنتهي هذه المعركة من الصراع ؟ و أين ومتى تبدأ المعركة التي تليها؟
لعلّ التعقيد الحاصل اليوم، يوحي بأنّ المسافة الزمنية بين معركة وأخرى في إطار هذا الصراع هي مسافة قصيرة زمنيًا، وإن اختلفت جغرافيتها وميادينها، ولعل الحكمة هي العامل الفاصل في تحديد حجم ومكان الزج بالإمكانات اللازمة لكلّ معركة بالتدريج وفقًا لما تقتضيه ضرورات وحجم كل معركة ومكانتها في مراحل الصراع وصولًا لنهايته.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري