كتابي (عناقيد#) تناولت في أحد مواضيعه جريمة الخيانة، وأيها أخطر على الشعوب، هل الخيانة العسكرية، أم السياسية، أم الاقتصادية.. ورجحت أن اخطرها هي الاقتصادية، لأنها ليست كالفعل الذي يكسر العود لينمو ثانية، ولكنها كالسوسة التي تنخره من داخله، وتؤدي به إلى الموت أو الهلاك، ولأن ضررها يمس المجتمع بأكمله، وها أنا اليوم ما زلت عند رأيي.. حتى وإن تعرض وطننا وشعبنا اليمني لهذا الغزو والعدوان التحالفي القذر، ورأينا بين من خان وطنه وشعبه، ليس من يقاتل في صفوف هذا العدوان وحسب، بل ومن يموت فداء لجنود المعتدي، وذوداً عن حدود أرض سلبها ذلكم المعتدي، وبعد أن رأينا من بلغت خيانته أن يقوم على بيع جزء من وطنه أو يؤجره، أو يقبل بوضع القيود بين أبناء شعبه – وأجياله – وبين الاستفادة من خيرات وطنهم واستقلالية قرارهم على أرضهم، فهؤلاء في نظري وإن تقتعوا بالخيانة العسكرية والسياسية لا يخرجون عن جريمة وحقارة الخيانة الاقتصادية كونهم لم يقدموا على ذاك لمآرب نفعيه فقط، بل ولأطماع ارتزاقية ممن يقودهم إلى ذلك النوع من الخيانة.
إن ما تسود العالم من متغيرات تجعلنا ننظر إلى خيانات الأوطان والشعوب على أنها لا تخرج عن دائرة الخيانة الاقتصادية وإن تنوعت، وبما أن للفلاسفة والحكماء سبقهم المبكر في رؤيتهم للكون والناس والأنظمة، فهذا هو أول فلاسفة الإسلام والعروبة – في نظري – الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضوان الله عليه يسبقنا بأربعة عشر قرناً من الزمن بتعريف جامع مانع للخيانة إذ قال “إن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأمة”.
ها هو الإمام علي يشير إلى تنوع وتعدد الخيانات شأنها شان الغش تماماً ويحدد أعظمها وأكبرها بخيانة الأمة أو ما يلحق الأذى والضرر بالمجتمع أو بالشعب لا بنظام أو جماعة بعينها، ومن هذا التعريف نستطيع أن ندرج تحت تعريف أعظم الخيانات أو ما نسميها في عصرنا بالخيانات العظمى التي يعاقب القانون مرتكبها في معظم الدول أن لم نقل جميعها بأشد وأقسى العقوبات خيانات ذات اضرار اقتصادية كخيانة التفريط بأرض الوطن أو سيادته والتفريط بمصلحة الوطن وأجياله القادمة والقتال في صف القوى المعتدية أو خدمتها التجسسية وتنفيذ مآربها العدوانية الطامعة إلى آخر ما يتسع ضرره وأذاه يشمل شعباً بأكمله أو الأمة والأجيال القادمة.
أعظم الخيانات خيانة الأمة وقد ساواها الإمام علي بغش الأمة أي الغش الذي يلحق الأذى بالمجتمع وأجياله القادمة كغش المتاجرة بالأدوية الفاسدة أو المواد الاستهلاكية السامة والمسرطنة أو السماح بدفن النفايات الخطيرة وكذلك تزوير الحقائق والعبث بالمفاهيم وتوظيف الدين لأغراض سياسية نفعية إلى آخر ما يندرج في إطار غش الأمة أو الشعب ويتسبب في أضرار حاضرة ومستقبلية.
من هذا المفهوم نستطيع القول أن التفريط بسيادة وطن وقضية أمة ومكاسب ثورة وقيم نبيلة والقفز على التضحيات والتهاون بدماء العظماء من الشهداء خيانات عظمى أي من الخيانات التي تجمع دول العالم في عصرنا على جسامتها وخطورة اضرارها وتجعل عقوبتها في صدارة عقوبات الخيانات التي يعتبر التهاون إزاءها خيانة أعظم.
#عناقيد. عباس الديلمي من إصدارات التوجيه المعنوي العام 1994م.